يبدو أن على الرئيس الفلسطيني الابتعاد قليلاً عن اسم محمود عباس، ليعود إلى إسمه الحركي "أبو مازن"، فالرجل الذي اعتاد الإعلان عدم تأييده انتفاضة ثالثة، والذي يُجمع قادة العالم أنه لا يؤمن بالعنف، يحاول اليوم استثمار حالة المواجهة، خاصة وأن انطلاقتها كانت في القدس الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وبحيث سيفشل الإسرائيليون في تحميله المسؤولية عنها، أبو مازن يؤيد المواجهة الشعبية، لكنه يسعى أن لا تخرج عن نطاق السيطرة ولا تتعسكر، وهو يأمل أن تبقى حالة المقاومة الشعبية الحالية على وتيرتها، بحيث تهز صورة نتنياهو في نظر مواطنيه كضامن للأمن، وتهز معه فكرة إمكانية استمرار الحياة الطبيعية في إسرائيل في ظل استمرار الاحتلال، وربما تُلقي حجراً في البركة الراكدة، وتُحيي فكرة الدولتين لشعبين، التي ظن نتنياهو أنه دفنها.
أبو مازن في خطابه الأخير وجه التحية أكثر من مرة للمنتفضين، مدعوماً من غالبية الفتحاويين الذين يؤيدون هذه الهبة، حتى أن الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة تقف على الحياد ولا تمنعها، وتتدخل فقط حين تشعر أن هناك إمكانية للانجرار إلى تصعيد، يبدو أن الساحة الفلسطينية غير مؤهلة له، وإذا كان الساسة الإسرائيليون من مختلف الأطياف، اتفقوا على أن خطابه الأخير كان زاخراً بالأكاذيب وتشويه الواقع، والتحريض على العنف والإرهاب من خلال استغلال الدين بصورة مغرضة، ويتسم بانعدام المسؤولية، فإن قرارات حكومة نتنياهو التصعيدية دليل على أن التصعيد يأتي من هذه الحكومة المُغرقة في عنصريتها.
من مقره في رام الله يراقب أبو مازن القدس التي تصدرت العناوين مُجدداً، على أيدي فتية فقدوا الأمل وهم يشاهدون مدينتهم تضيع من بين أيديهم، ويعيشون فيها كالغرباء، منذ تبنّى نتنياهو شعار "القدس موحدة إلى أبد الآبدين" لكنه أفرغه من أي مضمون، لأنّ الواقع يؤكد أن شطري القدس لم يتوحدا، رغم أنهما أقاما منذ العام 1967 علاقات تجارية واختلاط سكاني بشكل أو بآخر، والدليل يتوضح في القرار الإسرائيلي بإقامة نقاط تفتيش شرق المدينة، ما يمكن اعتباره حدوداً تُقسّم المدينة إلى قدس الإسرائيليين وقدس الفلسطينيين المحاصرة، والتي كان العديد من عائلاتها يعتمد في كسب الرزق على غرب المدينة، والذين سيؤدي حرمانهم من الوصول إلى مواقع عملهم إلى أزمة اقتصادية فورية وشديدة، في المدينة التي يجب يعيش فيها نحو 350 ألف فلسطيني، أي نحو 40% من السكان.
بعض الحجارة والسكاكين أثارت الرعب بين الإسرائيليين، وانتشر الخوف بحيث لاتخلو حقيبة امرأة من رذاذ الفلفل أو مسدس الصعق الكهربائي، فيما يبحث الرجال عن الغاز المسيل للدموع، أو يقتنون رخصة للسلاح، ويتم افتتاح دورات مجانية لتعليم الدفاع عن النفس، وتُقدّم العديد من نوادي اللياقة البدنية لزبائنها دورات مسرّعة في الدفاع عن النفس، وتنتشر دعوات ممنهجة لمعاقبة فلسطينيي القدس، رغم الاعتراف بأن شرقي المدينة تعرض للاهمال منذ عام 67، حيث فشلت إسرائيل بضمان أي شكل قريب من المساواة بين الأحياء اليهودية والعربية، مع دعوات لاعتقال كل من يرفع صوته من الفلسطينيين، وبذل جهود لتغيير إستراتيجي، لمعالجة معضلة ما الذي ترغب إسرائيل بفعله إزاء القدس الشرقية، مع ضرورة ملاحظة تخلف الأحياء العربية في المدينة بعشرات السنين وراء الأحياء اليهودية في كل مجال، من خدمات البلدية وصولاً إلى التعليم وفرص العمل.
معظم من ينتفض اليوم ولد بعد سنوات من "أوسلو"، وكان منتظراً أن يشهد اتفاقاً يتضمن تنازل إسرائيل عن المناطق المحتلة مقابل السلام، لكن إسرائيل بنت جدار فصل عنصري، وشهد هذا الجيل أكثر من نصف مليون مستوطن، وتواصلت انتهاكات الأقصى، ومع الضياع الأخير لكلّ أمل، لنفجر هذا الجيل محاولاً أن ينفضَ عنه من قام باحتلاله، وهو جيل لاينظر للأقصى كقضية دينية فقط، فهو رمز الوطنية الأخير الذي يمثل هوية غيّبتها الدولة الإسرائيلية بشكل شامل. ولم يكن غريباً أن أوائل الفلسطينيين الذين هاجموا المتدينين اليهود بسبب الأقصى ينتمون لجماعة ثورية علمانية، فالدفاع عن الأقصى مسألة وجودية، وهو جيل يتخذ قراراته بعيدا عن فتح وحماس.
إسرائيل اليوم تشجع مواطنيها على تنفيذ القانون بأيديهم، ويبدو أن المجتمع الإسرائيلي المدجج بالسلاح سيزداد تسليحاً، وعصابات الانتقام الإسرائيلية ظهرت بالفعل، وهي تقوم بإطلاق النار على العمال الفلسطينيين في الشوارع ما يؤكد أن هناك& مخرجا واحدا لدائرة القمع والمقاومة هذه، على الإسرائيليين التصالح مع الشعب الذي يشاركهم نفس الأرض، فالفلسطينيون باقون جيلاً بعد آخر ويكذب القادة الإسرائيليون على أنفسهم، بتجاهلهم أن هناك شعبين على هذه الأرض، لن يغادراها إلى أي مكان، ووحدها المصالحة ستكون قادرة على تمكينهما من العيش حياة طبيعية، وليس هناك بين الفلسطينيين من هو أقدر من محمود عباس على المضي في هذا الطريق، إن لم يجبره نتنياهو بسياساته الحمقاء على العودة إلى استخدام لقبه الحركي الفتحاوي "أبو مازن"، وتحمل تبعات خطوة كهذه ليس سراً أن كثيراً من الفلسطينيين ومعظم الفتحاويين يحثه عليها.
&