&

منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة 1921 وقبلها والعراق تتجاذبه تاثيرات ونفوذ عوائل (نبيلة) بانتماءات دينية وعشائرية واقطاعية ومالية تملك السطوة والجاه والتعاقب، وفي اغلب المنعطفات الحاسمة لعبت هذه العوائل ادواراً استثنائية ساهمت في بناء مفهوم العراق بصيغته السياسية الملموسة.

وبالرغم من فقدان نوري المالكي خلال عام واحد منصبي رئيس الوزراء ونائب رئيس الجمهورية، إلا إن الرجل يحاول جاهداً ايجاد موطئ قدم لاسرته في المشهد السياسي العراقي، ليؤسس سابقة، تتعارض مع وجهة نظر عالم الاجتماع العراقي الكبير الراحل علي الوردي. المالكي الذي يؤكد المقربون منه ان أهم اسباب خلافاته العميقة مع شركائه الكرد والشيعة تعود الى شعوره بعقدة النقص ازاء كل من عمار الحكيم، حفيد المرجع الشيعي الأعلى محسن الحكيم الذي هو آخر مرجع للطائفة الشيعية يُلقب بالامام المجاهد، ومقتدى الصدر الذي ينتمي لاسرة ألبست فيصل الاول ملك العراق التاج في الثالث والعشرين من آب عام 1921، ومسعود بارزاني نجل الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني، وأياد علاوي وأحمد الجلبي اللذين ينحدران من بيوتات بغدادية تجمع بين العلم والثراء.&

وقد دفعته عقدة النقص هذه الى زج اصهاره وابناء عمومته وابناء اشقائه في الانتخابات البرلمانية وسخر لهم جميع امكانيات الدولة وحزب الدعوة ايضاً، فحققوا الفوز، حتى في مناطق لم تطأها اقدامهم يوماً، وخسرت قيادات كبيرة من حزب الدعوة. ويأمل المالكي ان يكون هؤلاء نواة اسرته التي يريد لها أن تقف على قدم المساواة مع عوائل وبيوتات العراق العريقة التي لعبت دوراً ايجابياً وتنويرياً في المراحل الانتقالية وفي المجالات الاقتصادية والفكرية النهضوية قبل وبعد تأسيس الدولة العراقية.

ويبدو أن مكانة العوائل في المعيار الملموس للحالة العراقية وتجسيداتها، ليس امراً طارئاً أو مصطنعاً، فتكوين العراق الاجتماعي وأرثه وثقافته صنعا الى حد بعيد تلك المكانة النافذة لهذه (العوائل النبيلة)، التي تحكمت بمصير العراق حتى الان من دون استثناء العوامل المؤثرة الاخرى. ورغم كل التبدلات العميقة التي اجتاحت العالم فقد ظل دور هذه العوائل بارزاً وملحوظاً، وتجد ظلال تاثيراتها بادياً في صناعة القرار السياسي، علماً ان هذه العوائل تعرضت الى انكماش تاثيرها ودورها السياسي وتراجعها، عندما تكون الدولة قوية وتأثير الاحزاب السياسية في البلد مؤثراً.

وكانت ثورة العشرين الصورة الاكثر تجسيداً لملامح العوائل المتنفذة دينية كانت أم عشائرية أو اقتصادية في تكوين ملامح ومضمون الثورة، لكن أياً من هذه العوائل لم يكن (بيضة القبان) القادرة على قلب الموازين السياسية بشكل مصيري بسبب الطبيعة السياسية لتلك المرحلة وخصوصيتها وتوزع مرتكزات القوة لاسيما بوجود الاحتلال البريطاني، وهي في أغلب عمر الدولة العراقية الذي يمتد الى عقود، عجزت عن تكوين حركة سياسية جماهيرية تابعة لها، باستثناء الحركة القومية الكردية التي قادتها العائلة البرزانية والى حد أقل عائلتا الحكيم والصدر في فترات تاريخية متفاوتة.

ان سنوات 2003 وماتلاها كان تجسيدا نموذجياً لحكم العائلات وسطوتها، لكن بسيناريو واخراج جديدين يتناسب ومتطلبات المرحلة حيث استقوت بجبروت (الشيطان الأكبر) الذي تعامل بسطحية مع الحالة العراقية، التي لاتحكمها قواعد ثابتة. في هذا الظرف المحتدم ظهرت هذه العوائل مجدداً، واستطاعت تجاوز الدور التقليدي الذي كانت تلعبه في السابق عندما كانت تقف بمسافة خلف الحدود الحمراء المرسومة لها بعناية، لكن العهد الجديد منحها زخماً لم تحلم به في تاثيره وفعاليته، استناداً الى سلوك برغماتي يتناغم مع مفاهيم الديمقراطية وتطبيقاتها الشكلية في العراق.&

لكن هل يستطيع المالكي تحقيق حلمه هذا، أم ان هذا الحلم سيصبح وبالاً عليه، وربما يكون سبباً في انهاء مستقبله السياسي؟!.. سنوات حكم المالكي الثمانية أشرت بعض ملامح ما يُمكن تسميته اصطلاحاً بـ (شيزوفرينيا المواقف المتناقضة)، لاسيما عند التدقيق في طبيعة ونمط خلافاته وكيفية تعاطيه مع الازمات والمشاكل التي افتعلها لحلفائه وخصومه، بدءاً من اياد علاوي الفائز في انتخابات 2010 وتمكن المالكي من الالتفاف عليه بقرار قضائي، ومن ثم خلافاته مع اسامة النجيفي رئيس البرلمان، وقبلها خلافاته العميقة مع مقتدى الصدر والتيار الصدري، بالاضافة الى خلافاته مع اقليم كردستان، وصولاً الى تعاطيه مع مطالب المحافظات السنية المنتفضة، وأخيراً ما حدث ويحدث في الانبار والفلوجة.

وفي جميع الازمات التي اصطنعها المالكي كان دائماً يضمر عكس ما يقول علانية، بانتظار الفرصة المناسبة التي تُمكنه من الانقضاض على خصومه وحلفائه، بطريقة تنم عن شخصية قلقة وسلطوية لاتكترث للآخر، وقد تجلى ذلك بوضوح في مناسبتين هما: رفض المالكي الايفاء بتنفيذ اتفاقية اربيل لتقاسم السلطة، التي كان من المفترض ان توجد حكومة وطنية يمكن ان تربط العرب السنة بالعرب الشيعة معا، وزاد من التوترات مع اكراد العراق. والثانية تعاطية مع ازمة تظاهرات الانبار ووصفها بـ (الفقاعة)، لكنه مالبث أن أصبح هو النافخ فيها. وحين اشتداد اوار الحرب، بدأ بتقديم التنازلات من اجل ايقاف العملية العسكرية في الانبار والفلوجة ليس حقناً للدماء، وانما حفاظاً على ماء وجه السلطة التي يمثلها المالكي، والذي تؤشر كل الوقائع والمعطيات على انفراديته وتفرده بادارة مقدرات البلاد.&

ولعل أول من تنبه الى بدايات نزعة التفرد والتحول نحو الديكتاتورية لدى المالكي، هم حلفائه الشيعة، اذ حذر النائب الشيعي صباح الساعدي من ذلك، منذ عام 2011، وذهب الى ان المالكي يعد العدة لتكريس دور افراد اسرته في ترسيخ سلطاته. ولفتت تصريحات الساعدي، وهو الشيخ المعمم، نظر مرجعية النجف، التي اغلقت أبوابها بوجه الساسة العراقيين منذ منتصف عام 2012 وحتى نهاية حكم المالكي، بل وذهبت الى أبعد من ذلك بدعوتها الى ضرورة التغيير، منعاً لاندلاع فتنة طائفية جديدة، ستتسبب بها ولاية المالكي الثالثة.

واستندت وجهة نظر المرجعية الشيعية في ذلك، برغم كل الضغوط الايرانية، الى تصريح شهير أدلى به المالكي مُعرفاً بنفسه، حين قال: (أولاً أنا شيعي وثانيا أنا عراقي، وثالثا أنا عربي ورابعاً أنا عضو في حزب الدعوة)، وهو خطاب يُمثل بنظر المرجعية، دعوة لتصعيد النزاع الطائفي والمذهبي في بلد عانى ويلات الحروب لسنوات طوال. وفي الجانب الآخر وجدت المرجعية ان المالكي يعمل بكل طاقته، لمصلحته الشخصية وليس لبناء وطن، من أجل تكريس سلطته ونفوذ اسرته في المشهد السياسي العراقي، من خلال نحو 100 مستشار يعمل بمعيته، غالبيتهم من اقاربه وانسبائه، ضمن خطة (حكومة الظل) للاستيلاء على جميع السلطات.

وطبقاً لمصادر مقربة من مرجعية النجف، فان لدى المرجعية ادلة كثيرة تشير الى ان رئيس الوزراء نوري المالكي يمثل تهديداً قد يؤدي الى تأجيج العنف الطائفي، فمنذ انتخابات العام 2010، صار اكثر قمعا، ويتلاعب بقوات الأمن العراقية لخدمة مصالحه الخاصة، وأوجد رفضاً سنياً متزايداً لممارساته باستعمال الدعم السياسي الشيعي لتحقيق مكاسب شخصية.

وأيدت تقارير حقوق الانسان الصادرة عن الخارجية الاميركية، ومنظمة العفو الدولية، وبعثة مساعدة الامم المتحدة للعراق (يونامي)، أدلة المرجعية الشيعية، بتأكيدها بالوثائق والأرقام سعي المالكي لتكريس سلطاته ونفوذه، من خلال اصراره على قمع وابعاد سُنّة العراق من المشاركة الفاعلة خلال فترة ولايته الثانية.

يشار الى ان نوري المالكي (64 عاماً) ينتمي الى اسرة متواضعة تسكن قرية جناجة في قضاء سدة الهندية (طويريج)، اختير كمرشح تسوية لرئاسة الوزراء عام 2006، بعد رفض الاكراد لتولي ابراهيم الجعفري رئاسة الحكومة العراقية، في اعقاب انتخابات 2005. ويضم مكتب المالكي الرسمي بالاضافة الى نجله أحمد، صهريه ياسر وحسين، وشقيق زوجته علي الموسوي، المستشار الاعلامي، فضلاً عن ابناء اشقائه وعمومته. وبالاضافة الى هؤلاء هناك لواء (57) الخاص الذي شُكل ليكون اسناد للواء (56) واللواء (54)، الخاصة بحماية المالكي، لكنه يختلف عنها بانه يضم عناصر من قرية جناجة مسقط رأس المالكي.

&

&*كاتبة عراقية