أتت زيارة الرئيس الروسي لطهران متزامنة مع الحرب الدولية ضد داعش، وبعد الاتفاق النووي مع الغرب، لتبحث التطورات المتسارعة وتبني مستقبل علاقات البلدين، وهي بمثابة تحالف بين قوّتين مضادتين لمحاولات الهيمنة الاميركية، وبدأت ثمارها بشكل مبكر بإعلان بوتين رفع الحظر المفروض على تصدير التكنولوجيا النووية لإيران، وبدأت إجراءات تزويد طهران بنظام صواريخ «إس 300» المضادة للصواريخ والطائرات، ولتضع حداً لبعض الأوهام التي فسرت تصريحات صدرت من طهران على أنها ضد السياسات الروسية في سوريا، حيث عبّر الجانب الإيراني على أعلى مستوى، عن التوافق التام بين الجانبين إزاء الملف السوري، وأكد خامنئي أن الإجراءات الروسية في سوريا زادت مصداقية بوتين وبلاده في المنطقة والعالم، وبات واضحاً أن لاخلاف بينهما حول مصير الأسد.
يرى البعض أن إسقاط تركيا لطائرة روسية، وما تبع ذلك من تأييد أميركي وأطلسي للعملية نوعاً من الرد على اختراقات بوتين السياسية والعسكرية، وآخرها زيارته لطهران، فقد اعتادت تركيا على اختراقات سابقة لطائرات روسية، وكانت الحكمة وضبط النفس شعاراً تركياً ناجحاً، فماذا عدا مما بدا؟، وهل شملت الحسابات التركية رد فعل القيصر، وهي تعرف أنه لن يتردد في الانتقام، بوسيلة يختار هو نوعها وتوقيتها، خصوصاً إن درسنا بدقة ردود الفعل الروسية الأولية، حيث اعتبر بوتين أن اسقاط الطائرة الروسية طعنة في الظهر، من جانب المتواطئين مع الإرهابيين، والمؤكد أن نتائج العملية ستكون وخيمة على حكومة أردوغان، حتى لو لم يكن رد روسيا حرباً شاملة، وسيكون كافياً تجميد اتفاقات التبادل التجاري الضخمة، التي كان وقعها أردوغان مع موسكو قبل شهر، ومنع السواح الروس من التمتع بالضيافة العثمانية.
حرّكت زيارة بوتين إلى إيران المخاوف الغربية، فدفعت أنقره وهي عضو في الناتو لإسقاط الطائرة التي لم يثبت اختراقها للأجواء التركية، انقلب المشهد وبات أكثر تعقيداً وسخونة، فروسيا غير قادرة على تجاوز حادث الطائرة، ولو كان معنى ذلك الوصول بالعالم إلى حافة الهاوية، مع أنها بالتأكيد ليست راغبة في الانجرار وراء استفزاز الأطلسي والغرب إلى تصرفات لاتتجاوز رد الفعل، ستحد من تحركها نحو إعادة التوازن العالمي وانهاء حالة القطب الواحد، وهي تقف اليوم أمام عدة خيارات أولها استمرار دعم نظام الرئيس الأسد، وإسقاط طموح أنقره بالتخلص منه، ليحل محله الإخوان المسلمون ومن هم على شاكلتهم من نصرة ودواعش، وخيارات بوتين كثيرة ومتنوعة إن ابتعد عن الرد المباشر الذي يحفظ ماء وجه قوة دولية عظمى تسعى للعب دور مؤثر في صنع مستقبل المنطقة، فهناك قوتان تركيتان، مهيئتان للعب دور كبير في ليس فقط إقلاق حكومة أردوغان، وإنما في خلق بلبلة تضرب تركيا جميعها، نعني بذلك حزب العمال الكردستاني المتعطش لدور كهذا، والقادر على خلط الأوراق مجدداً، وإفقاد أردوغان وحزبه بهجة "الانتصار" في الانتخابات الأخيرة، والقوة الثانية هي الطائفة العلوية التي تشعر بأن حقوقها مغبونة، وأن أفرادها يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية، وجدير بالذكر أن غالبية ابناء هذه الطائفة يتحدثون العربية ويقيمون في المناطق السورية التي استولت عليها تركيا وضمتها بعد الحرب العالمية الأولى "لواء الاسكندرونه"، فلو زودت روسيا حزب العمال بالسلاح المطلوب وفعلت شيئا مشابها مع العلويين لوجدت تركيا نفسها في مأزق يتجاوز أردوغان وحزبه وحكومته.
تعاظم حجم التدخّل الروسي سياسياً وعسكرياً، وباتت موسكو العنصر الأقوى على الأرض السورية، ما يعني أنّنا أمام حرب مفتوحة تستهدف الحفاظ على مصالح روسيا، والأخطر عند الغرب أن ذلك يشمل إعادة رسم الخرائط التي رسمها سايكس وبيكو للمنطقة، وأسقطت داعش حدودها، دون أن تلبي طموحات القوميين بإعادة توحيد الأقطار التي بلغ عمرها اليوم 100عام، ودون تلبية الأوهام الغربية برسم حدود جديدة على مقاس مصالحها، تُلغي بها ما هو قائم، والمهم هنا إدراك أن الحرب في سوريا وربما في المنطقة بأسرها لن تنتهي سريعاً، فنحن مقبلون على أيام مختلفة عن سابقاتها، ترسم دقائقها وثوانيها في الكرملين تارة، وفي سوتشي تارة أخرى، وربما ينتقل صاحب القول الفصل فيها إلى عواصم أخرى كطهران، وربما دمشق في مرحلة لاحقه.
&