ليس معروفا من هو بالتحديد صاحب النظرية الفتاكة التي تقول : ((الأرض في المغرب أمازيغية وبالتالي فإن جميع المغاربة الموجودون فوقها أمازيغ)). شخصيا لم تتح لي فرصة الاطلاع على هذه النظرية مفصلة في كتاب، ولكنها تطالعني متكررة بتواتر في مقالات منشورة في الصحف، وفي مواقع النت لأشخاص يصنفون أنفسهم بالنشطاء الأمازيغ.

إذا تأملنا في هذه النظرية ورفضنا قبولها كمسلمة من المسلمات، وأدخلناها إلى مختبر التحليل والتمحيص، فإنها تبدو نظرية غير متماسكة، ولا يقبل بها العقل، خصوصا في ارتباطها بموضوع الهوية المفترض فيها أنها تجمع كل المغاربة وتشملهم تحت خيمتها.

ليست الأرض هي التي تحدد لوحدها هوية الجماعة وتصنفها وتضعها في إطار معين. الأرض فضاء محايد. الأفراد والجماعات الذين يعيشون فوق الأرض هم الذين يحددون طبقا لصيرورتهم التاريخية شكل وطبيعة الهوية التي يحملونها.&

من الممكن أن يكون للأرض، كمجال وموقع جغرافي، دور في التأثير على تشكُل هوية الجماعة وإعطائها مسارا معينا، ولكن الجماعة البشرية في النهاية هي التي تتحكم في مصيرها، وهي التي تتدخل لتحدد لهويتها الصيغة المناسبة لها المتفاعلة مع الأرض والمستمدة من المعطيات الثقافية في السياق التاريخي للجماعة.

لو كانت الأرض هي التي تنتج الهوية وتفرضها على الجماعة لما كان العرب الأوائل الذين وصلوا إلى المغرب منذ ما يفوق 12 قرنا قد تمسكوا بلغتهم وبدينهم الإسلام، ونشروهما في المغرب، ولكان سكان المغرب الأولون، أي الأمازيغ أصحاب الأرض، قد استوعبوا العرب الأجانب لحظة وصولهم إلى المغرب، وأدمجوهم في ثقافتهم، وجعلوهم ينسون العربية، ويتحولون إلى ناطقين بالأمازيغية، ومن تم إلى أمازيغ، ويعتنقون معهم الديانات التي كانت سائدة قبل الإسلام: المسيحية، واليهودية، والمجوسية، والوثنية.. ولكان لنا اليوم مغرب آخر بهوية غير الهوية الحالية التي نتحدث عنها ونتساجل حولها.

حين ظل العرب متمسكين بلغتهم العربية، والأمازيغ متشبثين بلغتهم الأمازيغية، وضمَهم كلهم الإسلام تحت كنفه، وأصبحوا بفضله إخوانا، وأضحى يشكل رابطا اجتماعيا يشدهم إلى بعضهم البعض، وقتها أصبحنا أمام مغرب مختلف، والأساسي هنا، هو أن المغرب صار بهوية ثقافية وحضارية مغايرة للمغرب الذي كان قبل ذلك التاريخ.&

لقد عاش المغاربة من أصول عربية قرونا وقرونا مديدة في هذه الأرض، وعاش معهم أيضا المهاجرون من الأندلس، والمنحدرون من إفريقيا، ومن الفضاء المتوسطي واليهود، ولقد كافحوا وناضلوا كلهم في هذه الأرض ضد المحتلين والغازين من مختلف الدول والأقوام والأديان، ودافعوا عنها وبنوها، وطوروها، وغيروا الكثير من معالمها، وساهموا في الحفاظ للدولة المغربية على وجودها إلى اليوم..

&وبسبب ذلك، أصبحوا مغاربة من أصول متباينة، وصارت الأرض أرضهم هم أيضا، لقد أصبحت الأرض نتيجة لذلك، عربية أمازيغية أندلسية إفريقية، ولم تبق كما كانت، قبل وصول هؤلاء إليها ومكوثهم فيها لحقب طويلة، أرضا أمازيغية صرفة.

&وبناء عليه، فحتى طبقا لنظرية أن الأرض هي التي تحدد الهوية، فإن الهوية المغربية ليست هوية أمازيغية خالصة، إنها عربية أمازيغية أندلسية إفريقية عبرية، هذا إن كنا نريد الانتصار للحقيقة كما يؤكدها الواقع المادي الملموس، ولا نتصرف بعقلية عنزة ولو طارت..

الذين يدافعون عن الأمازيغية في المغرب، وهم محقون في ذلك، يقولون لنا إنهم يدافعون عنها انطلاقا من إيمانهم بمبدأ التعددية والتنوع والحق في الاختلاف، ولكنهم حين يصرون على أن هوية المغرب أمازيغية خالصة، وأن كل المغاربة أمازيغ خلص، فإنهم يتحولون في لمح البصر إلى شموليين ومنغلقين ورافضين لغيرهم ويصبحون أصحاب الرأي الواحد.

&فأين هي التعددية التي يلوكونها كمصطلح على مسامعنا في كل الأوقات؟ تختفي بسرعة من قاموسهم ويقبرونها عندما لا تناسب تصورهم الأحادي للمغرب. وبطبيعة الحال فإن الذي يؤمن بالفكر الواحد ويعتنقه، يصبح مستعدا لاستعمال كل الوسائل لتطبيقه في الواقع، ويتحول بالسليقة، ورغما عنه، إلى ديكتاتوري، ومستبد، وفاشي لإملاء رأيه على من يخالفه الرأي.&

الملفت في الأمر هو أن النشطاء الأمازيغيين ينتقدون الدكتاتورية والاستبداد الموجودين في المشرق، ويشحذون أقلامهم للتشهير بحكامه المستبدين، ولكنهم هم أيضا يبدون، من خلال ما يكتبون وكيف يتصرفون، أنهم على استعداد تام وفي عجلة من أمرهم، لإعادة إنتاج نفس الاستبداد على إخوة لهم في الوطن، إن توفرت لديهم الإمكانيات لذلك، إنهم لا يختلفون عن الحكام المستبدين الذين ينتقدونهم ويشهرون بهم.

&ولعل هذا التطابق ناتج عن تفاعل الثقافات والعقليات في المجال الجغرافي الواحد الممتد من المحيط إلى الخليج، إذ نجد أن في الأمازيغي شيء من العربي، وفي العربي شيء من الأمازيغي أيضا. إنهما يتشابهان كثيرا.

فالناشط الأمازيغي الذي يقول إن الأرض لا تتغير، وأن الهوية المكتسبة فيها لأول مرة لا تتبدل وتظل قارة منذ أن خلقها الله إلى اليوم مهما كان من يقطنها، لا يختلف في أي شيء عن الشيخ السعودي الذي يقول إن الأرض ثابتة وغير كروية ولا تدور حول نفسها، إنه نفس المنطق وذات التفكير، لا فرق بينهما بتاتا.

&ولا غرابة في الأمر، فالمتطرفون والمتعصبون من مختلف الاتجاهات، في لحظة ما، يلتقون بينهم حول قواسم مشتركة، حتى وإن توهموا أنهم مختلفون ومتعارضون. الاختلاف قد يبدو في الشكل، وفي المصطلحات المستعملة أثناء التخاطب، وفي اللباس حيث الشيخ يرتدي الجبة والقفطان، بينما يلبس الناشط الجاكيط والكرافطا، أما في الجوهر فإنهما سيان. يعيشان معا في عصر ما قبل الحداثة والعلم، بعقلية رجعية قوامها الإقصاء والاستئصال ورفض الآخر المختلف والمغاير.

&