"اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو ميت!" عبارة خالدة لرسام الكاريكاتير الشهيد ناجي العلي نستشهد بها كمقدمة لهذا المقال بمناسبة الذكرى الرابعة لاغتيال ناشط السلام والصحافي الإيطالي الشهيد فيتوريو أريغوني. والسبب هو الرغبة في التأكيد مجددا على أن المستفيد الوحيد من اغتيال من كان عين أوربا الموثقة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أواخر سنة 2008 هو (اسرائيل) نفسها، فقد أنجز الشهيد سلسلة من 22 تقريرا عن العدوان الإسرائيلي أرسلها تباعا إلى صحيفة "إلمانيفستو" الإيطالية ونشرها على مدونته لتجمعها الصحيفة في كتاب سيترجم إلى لغات أوروبية عدة وأيضا إلى العربية تحت عنوان "غزة: حافظوا على إنسانيتكم". وهو التوقيع الذي كان يختم به أريغوني تقاريره: "Restiamo Umani"، والذي كان أيضا أحد أبرز الشعارات المرفوعة في عدة مسيرات خرجت حينها للتنديد بالعدوان الإسرائيلي في عدد من المدن الإيطالية. وإذا كان من بيض وجه (اسرائيل) الإجرامي الأسود يكافأ برزمة من الجوائز الدولية ويمسي بطلا أسطوريا في ظرف وجيز مثلما حصل مع روبيرتو سافيانو، فإن من قال الحقيقة بشأن الإجرام الإسرائيلي وانحاز إلى إنسانيته معلنا قبل أسابيع قليلة من اغتياله أن "ما يحدث في قطاع غزة هو التعريف الأفضل للإرهاب في الشرق الأوسط" فقد كان مصيره الاغتيال.
قد يتساءل متسائل عن سبب إبداء المغاربة لكل هذا التشبث بالقضية الفلسطينية؟
بداية، نذكر أنه و"في تحد لقوانين المنطق والتاريخ لا تزال إسبانيا تحتل 33 كيلومترا مربعا من شمال المغرب هي بقايا الإمبراطورية الكولونيالية القديمة: ونعني مدينتي سبتة مليلية وبعض الجزر الصغيرة. وعبر هذا الاحتلال، فإن الدولة الإسبانية تحافظ على نزاع دولي مفتوح مع المغرب، وفي الوقت ذاته تقتسم مع إسرائيل شرف العار بكونهما القوتين الأجنبيتين الوحيدتين اللتين تحتلان أراض عربية".
هذا ليس كلام أحد من المغاربة، إنما هو شهادة من كتاب "سبتة ومليلية آخر المستعمرات" (MELILLA Y CEUTA. Las últimas colonias) من تأليف الإسبانيان إنريكي كاراباثا وماكسيمو دي سانتوس، صدر أوائل التسعينات، يشير مؤلفاه إلى أن قضية احتلال مدينتي سبتة ومليلية والجزر التابعة تشكل خطرا على السلم والسلام في حوض البحر الأبيض المتوسط.
احتل الإسبان سبتة منذ سنة 1580 بعد أن كان البرتغاليون قد احتلوها سنة 1415 وبعد ذلك بسنة انتزعوا السيادة على جزيرة توره (La isla de Perejil)، ومليلية سنة 1497، وصخرة بادس (Peñón de Vélez de la Gomera)- تقع على بعد أقل من 100 متر من الساحل الشمالي المغربي- سنة 1508 أي 16 سنة فقط بعد سقوط غرناطة، وجزيرة نكور (Peñón de Alhucemas)- وتقع في خليج صغير يحمل الاسم نفسه وتبعد 300 متر عن ساحل مدينة الحسيمة- سنة 1560، وأرخبيل جزر إشفارن- أو الجزر الجعفرية- المكون من ثلاث جزر تقع على بعد حوالي أربعة كيلومترات الساحل الشمالي للمغرب سنة 1848.
تسمية "إشفارن" الأصيلة للجزر الجعفرية، والتي احتفظت بالاسم ذاته بالإسبانية (Islas Chafarinas)، هي كلمة أمازيغية مفردها "أشفار" أي: السارق. وهذا أكثر الأوصاف التصاقا بالمحتل الإسباني اليوم، وقد كانت بالأمس البعيد تطلق على القراصنة الذين كانوا يجوبون المتوسط متخذين من الجزر معقلا لهم.
حديثنا عن المحتل الإسباني يعود بنا إلى بدايات القرن العشرين، حين قصف الأخير بالقنابل الكيماوية الثقيلة منطقة الريف قبل أزيد من 93 سنة. ما خلف معدل انتشار لأمراض السرطان بالمنطقة هو الأعلى بالمغرب، بل ومن ضمن أعلى المعدلات في إفريقيا والمتوسط.
وكان "مركز النكور من أجل الثقافة والحرية والديمقراطية"- على اسم جزيرة نكور ما يرسخ تشبث سكان الريف المغربي بالوحدة الترابية المغربية في كليتها وشموليتها- قد وجه مراسلة إلى الحكومة المغربية قبل سنتين يدعوها فيها إلى فتح تحقيق في ملف القصف الكيماوي لمنطقة الريف ومعالجته مع كل الأطراف المعنية، سواء الدولة الإسبانية والفرنسية، أو ألمانيا التي قال المركز أنها متورطة بالقصف الذي ابتدأ شهر آب/أغسطس 1921 ودام 6 سنوات كاملة كرد على الخسائر الفادحة التي تكبدها الجيش الإسباني في العتاد والأرواح خلال حرب الريف (1921-1926)، لاسيما بعد الانتصار الكبير للمقاومين بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي في معركة أنوال أياما قليلة قبل القصف. وهي الخسارة الأكبر في تاريخ الجيش الإسباني خلال القرنين 19 و20. ويشير مؤرخون وخبراء إلى أن ألمانيا آنذاك وفرت القنابل والسلاح الكيماوي، بينما لعبت فرنسا دور الوسيط بين ألمانيا وإسبانيا، لتواصل الأخيرة القصف مستهدفة المساجد والأسواق والتجمعات السكانية والحقول. إضافة إلى قصف بالمدفعية الثقيلة قبالة السواحل الشمالية لدفع المقاومين الى الاستسلام. ما شكل، كما ذكر المركز، تجاوزا صريحا لاتفاقيتي لاهاي 1899 و1907 وبروتوكولي جنيف 1924 الخاص بتسوية النزاعات الدولية بالطرق السلمية و1925 الذي يحضر استعمال الغازات السامة والجرثومية ومعاهدة السلام فيرساي التي تمنع على ألمانيا تصنيع أو استيراد أو تصدير المواد الكيماوية وكذلك ميثاق عصبة الأمم 1920 الذي يجرم العدوان. حيث تكيف هذه الحرب بأنها حرب عدوانية رافقتها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، تجد أساسها القانوني في الفصل 6 من النظام الأساسي لمحكمة نورمبرغ لسنة 1945.
أما فرنسا، فتبرز الوثائق التاريخية أن مشاركتها في الحرب ضد ثورة الخطابي كانت أكثر تجييشا. ففي الوقت الذي حشدت في إسبانيا 60 ألف من قواتها، حشدت فرنسا 200 ألف جندي تحت قيادة المارشال بيتان الذي سينصبه لاحقا أدولف هتلر على رأس حكومة فرنسا. وأتى التدخل الفرنسي لإنقاذ إسبانيا من تداعيات الهزيمة النكراء في معركة أنوال، وخوفا من نقل الخطابي لتجربته في الكفاح المسلح ضد المحتل إلى المناطق التي احتلتها فرنسا وسط المغرب. وهو ما كان سيؤدي إلى انتشارها في كل الشمال الإفريقي المحتل وفقا لنظرة صاحبها التحررية الفذة.
يجسد النموذج الفكري الذي أصبحت تمثله فلسطين لعدد من شعوب العالم بامتياز منقطع النظير النموذج التضامني الأمريكي اللاتيني، والذي أساسه إشاعة ثقافة الوعي السياسي في كل طبقات المجتمع قصد بناء دعامة ديمقراطية صلبة لتشييد النمو الاقتصادي والاجتماعي المنشود. وهنا لا يمكن إلا أن نذكر بوقفة شمس الأرجنتين المشرقة، الرئيسة كريستينا فرنانديز دي كيرشنر، والتي كانت بألف ألف رجل، حين فضحت نفاق الأسرة الدولية وازدواجية خطابها ومكاييلها تجاه مآسي الإنسانية في كل من العراق وأفغانستان وسورية وفلسطين ومن قلب معقلها بمجلس الأمن الدولي في سبتمبر من العام الماضي. ما أحدث، ولأول مرة في تاريخ المحفل الأممي، "خللا فنيا" قطعت على إثره الترجمة عن الرئيسة الأرجنتينية وهي تلقي كلمتها، كما قطعت محطات تلفزة كانت تبث كلمتها على الهواء إرسالها. ويبدو أن الإعلام المرئي في مطلع هذا القرن من الألفية الثالثة لم يعد يقبل بتاتا بأن تعبر الحقيقة شاشاته إلى المشاهدين الكرام.
على المستوى الثقافي للإنسانية، نذكر هنا الشاعر الألماني غونتر غراس الذي فقدناه جسدا قبل أيام لتظل مواقفه المشرفة خالدة فينا، وهو الذي أغضب (اسرائيل) بقصيدة "ما ينبغي قوله" التي وصفها فيها بأنها "تهدد السلم الدولي الهش من خلال رغبتها في شن ضربة على المنشآت النووية الإيرانية". ليتم اتهامه بالتهمة المعدة سلفا في المكيال: "معاداة السامية"، كما أعلنت الحكومة الإسرائيلية على إثر نشر القصيدة أن غراس يلهب مشاعر الكراهية ضد (إسرائيل) وشعبها وبالتالي فهو "شخص غير مرغوب فيه".
هذا التذمر الإسرائيلي المتعجرف من كل من يعبر عن إنسانيته تجاه فلسطين والفلسطينيين من جهة، وعن موقفه الأخلاقي من (إسرائيل) من جهة ثانية يذكرنا بالحرب الشعواء التي تشنها الدولة الفرنسية على الفنان الفرنسي الساخر ذي الأصول الكاميرونية ديودونيه مبالا مبالا الذي كان من المفروض أن يقدم عرضه الجديد بمدينة الدار البيضاء في 29 من الشهر الجاري لكن إحدى المنظمات بفرنسا، وتدعى "المكتب الوطني لليقظة ضد معاداة السامية" (BNVCA)، قامت فور إعلان الفنان عن قدومه إلى المغرب بمراسلة السفير المغربي بفرنسا "قصد التدخل لدى الحكومة لمنع هذا العرض". وذلك بدعوى أن "ديودونيه مشهور بعلاقاته المتينة مع اليمين المتطرف العنصري واليسار الراديكالي المعادي لليهود، كما تربطه علاقات وثيقة بإسلاميين وبصقور القيادة الإيرانية". ليضيف البيان بكثير من الوقاحة أن "الحكومة المغربية ستتشرف بمنع هذا المهرج من زرع الكراهية والفتنة، ما من شأنه تهديد المواطنين اليهود المحميين من قبل ملك المغرب والدستور".
أصل عداء المنظمات اليهودية الموالية لـ(اسرائيل) بفرنسا لديودونيه يعود إلى سنة 2003 حين قام الفنان الفرنسي بتقديم عرض على القناة الفرنسية الثانية، وعلى المباشر، خالف فيه ما درج عليه جل الفنانين والإعلاميين بعد سنة 2001 وهو: الربط الساخر والمبتذل بين الإسلام والإرهاب. فقام ديودونيه بتسليط الضوء على إرهاب المستوطنين الإسرائيليين برعاية الولايات المتحدة حين تقمص شخصية أحدهم، لتبدأ الحرب ويشتد الحصار والتضييق على أفضل فنان فرنسي ساخر بشهادة زملائه الفرنسيين أنفسهم. وإذا كانت فرنسا الأنوار في القرن 21 تضيق ذرعا بحرية التعبير الفني، فلا يجب على المغرب ذي الأبعاد الإفريقية والمتوسطية والأندلسية- وهذا أيضا مما في دستورنا- أن يحذو حذوها ويرضخ لتحكم اللوبي اليهودي مضيعا بذلك فرصة ذهبية ليرد للدولة الفرنسية "صاعا ثقيلا" من دروس الحرية التي لطالما اشتكى تلقيها من محتل الأمس.
لاقت عريضة قدمت سنة 2008 الرفض من طرف السلطات الإسرائيلية لاعتبار مقدميها فكرة "أن تكون يهوديا للاستهلاك المحلي وإسرائيليا للاستهلاك الخارجي، فكرة لا معنى لها". وبناء عليه فالفلسطينيون والأقليات الأخرى خارجة من هذا التعريف، فللجنسية الإسرائيلية طابع ديني ـ ثيوقراطي. وهو أمر غريب غير موجود في دول العالم، ويناقض مفهوم المواطنة التي تعني المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، فالمساواة ضمن هذا التعريف اقتصارية وبين اليهود أنفسهم. كما أنه وللحفاظ على هذا الطابع فإن القانون يمنع على أبناء الفلسطينيين ممن تزوجوا من خارج حدود ما قبل 1967 جلب أزواجهم وزوجاتهم تحت ذريعة الحفاظ على "الطابع اليهودي للدولة"، وهنا أيضا لا توجد دولة في العالم تحرم ممارسة حق الحياة العائلية.
في آخر عدوان إسرائيلي الصيف الماضي قتلت الآلة العسكرية الصهيونية أزيد من 530 طفلا فلسطينيا من مجموع 2147 شهيدا 81 بالمائة منهم مدنيون من بينهم ما يناهز 300 شهيدة. كما تضم القائمة 23 شهيدا من الطواقم الطبية و16 صحفيا و11 من موظفي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين - الأونروا، إضافة إلى عشرات الآلاف من الجرحى والمشردين. أما في زمن "اللاحرب" فمعدل الاعتقال السنوي في حق الأطفال الفلسطينيين هو في حدود 700 طفل معتقل، وقبل أيام قصف جنود الاحتلال روضة أطفال في بلدة بلعا بطولكرم بقنابل الغاز المسيل للدموع.
نجد من داخل منظومة الحكم الإسرائيلية نفسها بعض الشهادات شديدة اللهجة، فقد أكدت وزيرة التعليم الإسرائيلية الراحلة شولاميت ألوني في كتابها الصادر سنة 2008 "ديمقراطية مقيدة بالأصفاد" أن "إسرائيل لم تعد ديمقراطية بعد تحولها لإثنوقراطية يسودها الأبرتهايد، وتفوح منها شتى روائح العنصرية". كما تشير إلى أن النظام الديمقراطي شهد تراجعا متواصلا إذ تحولت (اسرائيل) رسميا لإثنوقراطية بعد إقرار "قانون كرامة الإنسان وحريته" عام 1992 والذي عرف (اسرائيل) بأنها "يهودية وديمقراطية"، متراجعة عن تعريفها المضمن في "وثيقة الاستقلال" كـ"دولة لكل مواطنيها". واستعرض الكتاب فظاعات وجرائم ارتكبتها (اسرائيل) طيلة عقود، وإصرارها على رفض السلام وتشبث الإسرائيليين بخطاب الضحية تارة وخطاب القوة والقدسية والبطولة تارة أخرى "على غرار موسوليني مؤسس إيطاليا الفاشية"، وذكرت ألوني استغرابها "مقارنة مع فترة التأسيس" كيف تحول الإسرائيليون اليوم إلى مجتمع "طماع ومادي وفاسد". وأن اغتيال رئيس الوزراء السابق إسحق رابين عام 1995 جاء على خلفية انفلات العنصرية منذ الثمانينيات التي شهدت محاولات تشريع قوانين أسوء من "قوانين نورمبرغ"، ولا تستبعد قتله "تآمرا من قبل الشاباك". وتستذكر فعاليات التحريض على رابين مشبهة إياها بفاشية موسوليني، وتضيف أن المستوطنين ومعسكر اليمين لم يرغبوا في السلام بل أرادوا "أرض إسرائيل الكاملة خالية من العرب والمساجد". وأن (اسرائيل) "تسعى دوما لبناء ذاتها على شعور أوروبا بالندم بعد الكارثة"، مكررة "موالها المضحك: حقها في العيش بأمن بدون تهديدات بقذف اليهود في البحر". لتخلص إلى أن "الديمقراطية الإسرائيلية ذر للرماد في العيون واحتيال ومحاولة تجميل"، متسائلة: "المواطنون الدروز المقيمون بيننا والذين يخدمون في جيشنا ونصفهم بالإخوة بالدم، هل هم متساوو الحقوق مع اليهود؟".
وترد ألوني على من يدافع عن تعريف "يهودية وديمقراطية" من خلال مقارنتها بفرنسا كدولة الفرنسيين بالقول أن "دولة إسرائيل" تمثل مجتمعا مدنيا يشمل أفكارا ومعتقدات مختلفة. بينما "دولة يهودية"، وفقا للقانون الإسرائيلي، هي "دولة ديانة وقومية معا وتحت مراقبة دينية أرثوذكسية". لتواصل استعراض شهاداتها بالنبرة المنتقدة ذاتها إذ تقول بأنها معنية بأن تكون "إسرائيلية" وترفض الاضطهاد الديني على أيدي الحاخامات، وتتابع "ثقافة وتاريخ نعم، أما حاخامات فلا، بل إنني مستعدة لأن أعبد الشمس والقمر والنجوم والربيع بل كل شيء بحسب مزاجي، ولكنني أرفض رجال الدين بليدي الإحساس والخائفين من كل تجديد والمحتقرين المرأة". وهنا يتضح لنا من شهادة بنت الدار أن (اسرائيل) ليست فقط قوة احتلال وقتل وإجرام، بل هي أكثر من ذلك: كتلة متحجرة من التخلف الديني. ذلك أن وضعية المرأة في المجتمع تظل أشد وحدات قياس الديمقراطية دقة في العالم.
يذكر أن ألوني التي نشطت ضمن "القوى الضاربة" للهغاناه (البلماح) قد أغفلت في كتابها عمليات تهجير الفلسطينيين عمدا عام 48، مكتفية بالقول "حول سبب نزوح الفلسطينيين، هربهم وتهجيرهم، هنالك خلاف في الرأي.. وقد سدت إسرائيل طريق عودتهم". موضحة أن "إسرائيل، ورغم امتلاء خزينتها، تهمل جهاز التعليم والمؤسسة الأكاديمية والثقافة فيما يتفاقم الفساد في "غيتو يهودي" بكل أفكاره المسبقة، زائدا القوة العسكرية وقوة المال والسيطرة.
أزمة (اسرائيل) الوجودية هذه تعكس جوهر ذلك الإحساس المزمن الذي يلازم المستوطنين بأن الأرض ليست أرضهم، مهما جاهدوا إيديولوجيا لإثبات العكس.
يسوق بن وايت في كتابه بعنوان "الفلسطينيون في اسرائيل: العزل والتمييز والديمقراطية"، الصادر سنة 2012، شهادة لأحد أفراد كيبوتز بني على أنقاض قرية سعسع المدمرة قال فيها: "سيئ أن تعيش في قرية عربية، في بيوت أناس تركوها على عجل قبل أن نصل، وها نحن اليهود الأمريكيين الرواد الذين جاءوا لبناء أرض الوطن الجديدة وبناء مجتمع جديد هنا.. فإن كان أمرا سيئا أن تعيش في قرية يمكن أن تشعر بحضور من تركوها، من خلال بعض ممتلكاتهم التي تركوها وراءهم، ومخازنهم المليئة بحصاد الموسم، فإن لم يكن كل هذا كافيا لتدمير بالوننا الايديولوجي، فإن هناك مشكلة بالمسجد وماذا نفعل به". كما تضمن الكتاب استطلاعات للرأي تظهر أبعادا أخرى لمعاني العنصرية، فأحدها أظهر أن نصف المشاركين ساووا العلاقة بين يهودية وعربي بالخيانة العظمى، و75 بالمائة منهم طالبوا بمنع الفلسطينيين من دخول الكنيست، ونسبة 62 بالمائة طالبت بخلق سياسات تدفعهم إلى الهجرة، فيما دعت نسبة 32 بالمائة لمنعهم من التصويت.
التضييق على الفلسطينيين ومحاصرتهم بشتى أنواع الحصار يتخذ بدوره أبعادا غير مسبوقة، فحتى على المستوى الافتراضي وحدهم الفلسطينيون من تم منعهم من التعبير عن رغبتهم في التحرر بتحرير أرضهم سنة 2011. حيث أنشأ الفلسطينيون صفحة "الانتفاضة الفلسطينية الثالثة" على موقع "فيسبوك" لتدخل (إسرائيل) مجددا وسريعا على الخط بمكالمة هاتفية قصيرة من الوزير الصهيوني للإعلام والهجرة آنذاك يولي إدلشتاين آمرا الرئيس التنفيذي للموقع مارك زوكربرغ بحذف صفحة الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، النسخة الفلسطينية لثورة استرجاع الكرامة والأرض بعد أن بلغ الرعب الإسرائيلي ذروته وعداد متابعي الصفحة يقترب من الربع مليون في غضون أيام قليلة. كما تعرضت حسابات نشطاء من فلسطينيي عام 1948 على الموقع ذاته للحظر والإغلاق، كان أبرزها حجب حسابات نشطاء حركة "الشبيبة اليافية" سنة 2013 والذين أطلقوا صفحة خاصة بعنوان "منكوبات على مدار الساعة" خصصت لإحياء الذكرى 65 لنكبة فلسطين شهر أيار/مايو. وسبق لموقع "فيسبوك" أن حجب وأغلق منذ مطلع سنة 2013 حسابات خاصة بنشطاء وشباب من يافا، وذلك لدورهم في تفعيل القضية الفلسطينية على الشبكة بتوثيق الفعاليات الشبابية في "دوار الساعة" الذي شهد حراكا شعبيا لإحياء المناسبات الوطنية. هذا إضافة إلى حذف إدارة الموقع لعدد من صفحات قياديين في المقاومة ليتأكد للمتابع بما لا يدع مجالا للشك أن فلسطين "شيء" غير مرغوب فيه، سواء على أرض الواقع أو حتى في "عالم" افتراضي يفتح باعه لاحتضان الجميع مستثنيا عن قصد الفلسطينيين، وهذه أشد سخريات الزمن المعاصر قساوة وسوداوية.
&