غيب الموت امس 19 تموز 2015، في احد مستشقيات لندن بالمملكة المتحدة، احد ابرز المعماريين العرب: المعمار العراقي "محمد مكيه" (1914-2014)،هو المولود في بغداد بمحلة "صبابيخ الآل" بوسط العاصمة العراقية. انهى محمد مكيه تعليمه المعماري في انكلترة، في "ليفربول" – مدينة المعاريين العراقيين الرواد، اللذين تأهل اكثريتهم& في مدرستها المعمارية وحصلوا منها على شهادات التخرج المهنية، امثال احمد مختار ابراهيم، وحازم نامق، وجعفر علاوي، وعبد الله احسان كامل، ومدحت على مظلوم وغيرهم؛ كما انهى "مكيه " دراسته العليا <الدكتوراه> من "كينغس& كولوج& Kings College " في كمبريدج&& عام 1946. عاد العراق سنة 1947، والتحق في مديرية البلديات العامة. اختير كخبير في منظمة الامم المتحدةسنة 1951، رأس جمعية الفنانين العراقيين ما بين اعوام 1955- 1959. اسس في سنة 1959 مع معماريين عراقيين آخرين اول قسم معماري بالعراق بكلية الهندسة، جامعة بغداد، واصبح رئيسا له منذ تاسيسه ولغاية 1969. نشر عدة بحوث، واصدر كتاب عن سيرته الذاتية بعنوان "خواطر السنين" سنة 2005.
أغنى محمد مكيه على امتداد نشاطه الابداعي الطويل، البيئة المحلية والاقليمية بشواهد مبنية، تعد الآن صروحاً معمارية، و"ايقونات" بصرية لتلك المدن التى تقع فيها تلك الشواهد. ومثلما اثرى بيئتنا المبنية، فإنه أضاف، ايضاً، الشئ الكثير للمنجز المهني والثقافي العراقي والعربي المتنوع. من هنا، تعد عمارة مكيه، الآن، ملكاً للناس وللثقافة التى انتجتها، وللمجتمع الذي ُصمّمت له تلك العمارة. عبّر محمد مكيه عن حسه المهني للمكان، وتأثير هذا المكان وثقافته على مجمل التصاميم التى انجزها المعمار، مثل "مسجد الخلفاء" (1963)، وكلية التربية في باب المعظم (1966)، ومكتبة ديوان الاوقاف (1967) ببغداد، ومبنييّ مصرف الرافدين في الكوفة (1968)، وفي كربلاء (1968)، ومسجد الشيخ حمد (1974) في البحرين؛ ومسجد الكويت الكبير (1982)، ومسجد الصديق (1978)، واعد تصاميم لمسجد الدولة الكبير في بغداد (1982)، وجامعة الرشيد (1981) في ضواحي بغداد، ومشروع الجامعة العربية في تونس (1983) وغيرها من المشاريع ذات اللغة التصميمية الميزة التى اكسبت تلك العمارة اهميتها، ومنحتها فرادتها.
لقد شكلت عمارة محمد مكيه، بمقاربتها المميزة، احدى اهم تجليات المنجز المعماري العراقي المرموق، واحتلت موقعا مؤثرا في الخطاب المعماري الاقليمي. لقد ارتبطت تلك المقاربة بالاهتمام والتأكيد على خصوصية المكان، وثقافته، و"روحه"؛ كمفردة اساسية في عمليىة الخلق التكويني المؤسسة لعمارة جديدة، كان من ضمن مقوماتها تأويل وإعادة قراءة المنجز المعماري المحلي،& ذلك المنجز، الذي تشكل عبر أزمنة طويلة، وإضافات مبدعة، تعاقب معماريون وبناة مبدعون على اثرائه وديمومته. إن فعالية التأويل، التى تبنتها تلك المقاربة الخلاقة، وإعادة القراءة للموروث المعماري التى وسمت نشاط محمد مكيه التصميمي، كانا يجريان ضمن مستلزمات وقيم عمارة الحداثة، وهي التى مافتئت أن أصبحت عنوان الممارسة المعمارية العالمية السائدة، ومرجعيتها النظرية. ولعل هذا الامر، هو الذي يجعل من مقاربة محمد مكيه المعمارية أن ترتقي، لتكون حدثا مهماً، ومؤثراً، وإستثنائياً بإهميته، في الخطاب المعماري الإقليمي والعالمي.
وتعد رائعته التصميمية "مسجد الخلفاء" ببغداد (1963)، احد اهم المآثر المعمارية العربية في فترة الستينات، لجهة نوعية حلولها التصميمية ولناحية مقاربتها المعمارية. وقد كتبت مرة، عن خصوصية تلك العمارة المهمة، التى اعدها اضافة مميزة في منتج العمارة الاقليمية، واشرت فيها الى مايلي:& "تُعّد، نقدياً، فترة بدء الستينات، وما تلاها، (وهي الفترة المواكبة لظهور عمارة جامع الخلفاء)، بالفترة الحافلة بارهاصات التغيير، والمتجاسرة برفع راية التمرد الاسلوبي، في وجه، ما سيدعوه "جان – فرنسوا ليوتار"J-F. Loyotard& لاحقا، بـ "السرديات الكبرى". وما تلك "السرديات"، هنا، سوى هيمنة وسطوة "التيار الدولي"International Style ، ونفوذه في المشهد والخطاب معاً. فذلك التيار، الذي اولى <الوظيفية>، جل إهتمامه، متعالياً عن الاهتمامات المحلية، وعابراً لجغرافيتها، ونافياً لتقاليدها، كان التيار السائد، والاكثر رواجا في الممارسة المعمارية العالمية، وخصوصا في نسخته "الميسويه" <نسبة الى ميس فان دير روّ>، وبالتالي كان التيار الاكثر رسوخا بالمشهد، والحاصل على مقبولية جد عالية من قبل كثر من المصمميين، رغم تباين مرجعياتهم الثقافية، واختلاف اثنياتهم. في تلك الفترة ، تحديداً، تنبه البعض الى قيمة "التاريخ": التاريخ المعماري وذاكرته المترعة، بانشغالات، وفقا، ومرة آخرى، بحسب ليوتار بـ "السرديات الصغرى": الهم المحلي المغيب، والاعلاء من قيمة التقاليد المعمارية ورموزها. بيد ان تلك الانشغالات لم تكن معنية في "إحياء" التاريخ، لجهة استجداء فورماته المتداولة في صيغتها "الباستيشيه"Pastiche ، بل تهدف الى استعادته، استعادة مشروطة بشرط التحديث، ومعايير الحداثة، والطامحة، أيضاً، الى تمثيل روح المكان، الذي تنهض به تلك المباني. وهو ما تجسد، بكفاءة (وبندرة ايضاً)، في عمارة ذلك المبنى المدهش: جامع الخلفاء".
لقد وجدت مواضيع "التراث" و"التقاليد" وقضايا "الانتماء" والمرجعيات التصميمية، في شخصية محمد مكيه معبرا بليغاً عنها. وكانت مقاربة مدرسة بغداد، التى تبناها محمد مكيه وكرس مفاهيمها في الخطاب التعليمي والتنظيري، وطبعاً، في الشأن العملي/ التطبيقي، تنحو الى الرفع من شأن مفهوم التراث معمارياً، ولكن "كمفهوم" بصفته تراثاً منفتحاً على الآخر، والتائق للتعلم من إنجازات ذلك الآخر، وتوظيفها في قراءة التراث المحلي قراءة ابيستمولوجية، تعتمد في النتيجة، الى ما يشبه جدلية "الفصل" و"الوصل". بمعنى، جعل التراث معاصراً لنفسه بفصله عنا، وجعله معاصراً لنا بوصله بنا. اي انه يرى بامكانية ان تثري الهوية المحلية الموروث الانساني الشامل، وان يكون عمل الاخير، مدعاة لاثراء الهوية المحلية ذاتها. اعتقد، شخصياً، بان محمد مكيه وخلفيته الثقافية وتصوراته عن التراث، ساهمت في انجاح حضور اطروحة التراث في المنتج المعماري المحلي المعاصر. فالمجتمع الراغب في الحفاظ على ارثه وخصوصيته، كما يقول، أمين المعلوف، "..عليه ان يظهر شفافية احياناً، أمام التأثيرات المقبلة من الخارج".& بدون هذا الطرح، وبدون مثل هذا الادراك، تظل العمارة المنتجة، وفق الفهم الجامد للتراث، تحمل في طياتها فشلها وخيباتها. وهو امر سعى محمد مكيه لتفاديه في مجمل ما صممه، وخصوصا في فترة ما بعد مسجد الخلفاء.
لا يمكننا ، ونحن بصدد الكلام عن سيرة "محمد مكيه" ان نتغاضى عن دوره الفعال والاكيد في تأسيس مدرسة بغداد المعمارية الاولى – قسم العمارة في كلية الهندسة بجامعة بغداد، فقد شغل المعمار منصب اول رئيس للقسم& غُب ّ تأسيسه عام 1959 ولحين خروجه القسري من العراق في نهاية الستينات. وحاول مع زملائه المعماريين العراقيين وبالاشتراك مع تدريسيين من اوروبا الشرقية، وقتذاك، ان يكرسوا الاهتمامات المحلية والاقليمية في المناهج التدريسية للقسم، وان يعكسوا ذلك في استحداث مقررات جديدة تخص العمارة الاسلامية وشواهد البيئة& المبنية، مما مكنهم الرفع عالياً من مكانة واسم القسم الذى ارساه يوما ما& "محمد مكيه" الى مصاف المدارس المعمارية المهمة والمؤثرة في العملية التعليمية لعموم منطقة الشرق الاوسط!
استمر "محمد مكيه" باداء دوره التنويري والثقافي، في مكان اقامته الجديد بلندن، بتأسيس "ديوان الكوفة" سنة 1987، المكان الثقافي الذي وصفه المثقفون العرب، بانه مركزا ثقافيا للجالية العربية، وحلقة وصل بينها وبين الوسط الثقافي البريطاني، وهو البيت الذي طالما أنس فيه المثقفون والمهجرون والغرباء، والتصقت به جالية عراقية وعربية من اقصى الجنوب الى اقصى الغرب، وقد اتسم برنامج الديوان بروح ليبرالية، متعاليا على التعصب بشتى اشكاله والوانه". لكن ذلك البيت الحميم، لم يلق اي دعم مما ادى الى غلقه في سنة 2006.
وبمناسبة مئويته، التى صادفت في عام 2014، احتفلت الاوساط المهنية والاجتماعية في بلده العراق، بمنهاج حافل، وبتنظيم ندوة خاصة بهذه المناسبة تبنتها امانة بغداد، وقد عبرت تلك الاوساط عن ايماءة احترام وتقدير للمعمار البغدادي الشهير، وخرجت بتوصيات محددة، نعتقد بان آن الآوان لتحقيقها وتفعيلها.
&وداعاً، محمد مكيه"، وداعاً فخرنا المعماري والثقافي والوطني!

د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي
&