اختلف الكثيرون ( خاصة خارج العراق ) في فهم أو تحليل حقيقة المظاهرات الجارية في العراق اليوم وتصاعدها السريع! فمن قائل أنها الثورة بعد طول معاناة وحرمان وشقاء، ولن تهدأ أو تلقي مراسيها حتى تصل سفينة العراق إلى شاطئ جديد تماما؛ يزخر بالأمان والحضارة والخير والعدل!

ومن قائل أنها فورة غضب وانفعال مناخي عابر وستخمد وتستكين إذا ألقي على الناس فتات من موائد الحاكمين العامرة بأطايب الطعام والمال والشعارات والمناصب.وثمة من قال أنها واجهة أو ستارة براقة سيجري خلفها تصفيات الحسابات التي اشتدت واستعرت بين زعماء الأحزاب الإسلامية الشيعية بعد أن قلت حصصهم من خزينة البلاد إثر انخفاض موارد البترول إلى أقل من النصف، وهي ليست أكثر من لعبة أخرى من لعب المتاجرين بالدين والمذهب ومستعمليه لإغراضهم الشخصية بما هو أشد مكرا من الكفر!

آخر قال: إنها ليست سوى تمهيد لانقلاب عسكري أمريكي وشيك، وتحدث عن ضباط كبار من الشيعة والسنة يجري تدريبهم سياسيا في واشنطن ليتسلموا السلطة ويعلنوا حكما عسكريا مركزيا أو دكتاتوريا يضمن أمن الناس ومستقبلا جديدا لهم، ويواجه داعش تحت إشراف وتمويل الأمريكان بعد انهيار الجيش العراقي وفشل الحكومة في إعادة بنائه، بل إطلاق الحشد الشعبي رديفا له بما يحمل من علل ونوايا خطيرة ليست بمعزل عن إيران ورجالها من العراقيين!

آخرون قالوا إنها لعبة إيرانية تريد فيها تبديل وجوه أصحابها في العراق بعد اتفاقها النووي مع أميركا والغرب، وإفلاسها في اليمن واحتمال تخليها عن الأسد، ودليلهم في ذلك صمتها المريب فترة محددة أعقبها تصريح رئيس الأركان الإيراني بتأييد العبادي في إجراءاته المتخذة تلبية لمطالب المتظاهرين والمرجعية الشيعية!

وثمة من قال أنها مؤامرة للبعثيين تذكر بإضراب سواق السيارات الذي مهد لانقلابهم الدموي في عام 1963! بل قال بعضهم إنها لعبة داعشية! وحذر من هجوم داعشي كبير وشيك على بغداد يلتقي بها في ساحة التحرير، ويزحف معها إلى المنطقة الخضراء!

أكثر المتأملين حذار هو من لا يزال يقول: إنه حراك جماهيري يكتنفه الكثير من الغموض والألغاز، والعتمة! ولا بد من الانتظار لمعرفة ما وراءه، ولا تأملوا خيرا من مظاهرات يؤيدها مرجع ديني كبير،وتحظى بترحيب رئيس الحكومة، وأحزاب دينية أخرى سنية وشيعية، وهؤلاء هم مهندسو مصائبنا وكوارثنا، هل سمعتم يوما بمذنب يلف بنفسه حبل المشنقة حول رقبته؟

ولا غرابة في كثرة التأويلات والتكهنات والأحكام. فالعراق ومنذ 2003 صار ساحة لعرض العجائب والغرائب بلباس دموي، والعراقيون صاروا مفرغة لصواعق المنطقة والعالم، ومختبرا لأفظع الآلام البشرية؛ والتي تقابل من العالم بالصمت أو الرثاء أو ببعض بيانات تسجيل الحضور، وإلقاء الحجة، أو تبرئة الذمة!

ولكي يصل من يتأملها إلى تقييم صحيح لها لا بد له من ملاحظة أهم سماتها: فجمهورها هم أهل الجنوب عموما، وقطاع كبير من أهل بغداد! وسكان الجنوب عموما هم من الشيعة (ولأغراض معرفية لا مناص من هكذا تصنيف ثقيل) فالسكان الآخرون في هذه المنطقة من السنة والمسيحيين والمندائيين جرى تهجيرهم وإجلائهم من بيوتهم، أو محاصرتهم،وكبتهم، بحملات اضطهاد ديني وطائفي بشع جدا، مما يؤكد أن ما يعانيه العراق ليس الفساد وحسب؛ بل نوائب أخرى أيضا أشد هولا وفظاعة!

كما يلاحظ أن الأجهزة الأمنية لم تتعرض للمتظاهرين أو تضايقهم ( بعضهم كان يقدم لهم الماء أو الطعام ) وهذا عكس ما حصل في مظاهرات سابقة في ساحة التحرير إذ جرى اغتيال أبرز منظميها، أو مع المتظاهرين والمعتصمين في الأنبار والحويجة والموصل حيث هوجموا بالدبابات&والطائرات وتناثرت جثث الكثيرين منهم في الشوارع والساحات ومهدت بذلك لخلق الأجواء المناسبة لقدوم الدواعش،وهروب الجيش أمامها!

موقف الجيش والشرطة من المتظاهرين، طيب ويوحي بالأمل، وبالطبع يحمل دلالات سياسية كثيرة ومختلفة.

المتظاهرون هم ليسوا كل المعترضين والمحتجين على الأوضاع السيئة القادمة، إنهم جسدهم الظاهر فقط، فالمظاهرات إن لم تحظ بتأييد مطلق من الملايين الصامتة الآن، لكنها تحظى باهتمامهم وترقبهم وتعاطفهم؛ حتى لو كان قلقا أو مضطربا أو تكتنفه الشكوك كما أسلفنا!

كما إن المطالب التي بدأت بضرورة توفير الكهرباء آخذة بالتصاعد لتتجاوز سقف ساحة التحرير لتصل إلى عنان السماء خاصة إذا لم تقر استجابة الحكومة المحدودة برلمانيا واشتعل غضب الناس!

&

وإلى الحلقة القادمة!

&

[email protected]