من السابق لأوانه الحكم على رئيس مجلس الوزراء العراقي الدكتور العبادي ونواياه الحقيقية أو معرفة حقيقة موقفه وقدراته الحقيقية في إدارة هذه المرحلة الحرجة التي هي انعطافة حقيقية في العملية السياسية البديلة للنظام الصدامي السابق. فالرجل مقيد بجملة من التوافقات والتعهدات والالتزامات التي كانت وراء وصوله إلى منصب رئاسة مجلس الوزراء، ومحاط بمجموعة من الحيتان الكبيرة والقوية التي تمتلك ميليشيات مسلحة وتنظيمات عسكرية مدربة ومسلحة لا تمنحه الولاء سواء كانت سنية أوشيعية أوكردية ولن تسمح له بالاستفراد بالقرار السياسي حتى لو تذرع بذريعة الإصلاح والاستجابة لمطالب الشارع العراقي. ولكن لايمكننا في نفس الوقت اتهامه بالتقصير والعجز وعدم الرغبة في الإصلاح الحقيقي والخروج من الردب أو الطريق المسدودة الذي وصلت إليها أحوال البلاد على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وهو يعرف ذلك جيداً. فالملفات التي أمامه كبيرة وضخمة وصعبة ولا يمكنه حلها بضربة عصا سحرية وبمجموعة من القرارات المحدودة التأثير التي يمكن الالتفاف عليها بسهولة وإفراغها من محتواها من قبل المناوئين والخصوم والمنافسين. فهو أمام مفترق طرق فإما أن ينأى بنفسه عن رفاق الأمس ويبادر إلى كشف أخطائهم وفسادهم، إن كان هو نفسه بريئاً منها، وإما أن يتغاضى عنها على طريقة عفى الله عما سلف والحال أن عليه ألاً يكتفي بخطوات خجولة تخديرية لامتصاص النقمة والهياج الجماهيري بل العمل بجدية على تهدئة الناس وتلبية احتياجاتهم المشروعة والبحث عن برنامج حقيقي فعال قابل للتطبيق والتنفيذ وبواقعية وعلى نحو جذري والبحث عن نقطة انطلاق وبداية جديدة وحقيقية لعراق يسير نحو الاستقرار والازدهار واستعادة الأموال المنهوبة ومحاسبة الفاسدين. فهل يملك الدكتور العبادي الإمكانات والمؤهلات والقدرة والرغبة والجرأة على السير في الطريق الصحيح الذي خطه المتظاهرون بحناجرهم وشعاراتهم ومعاناتهم، ومعهم المرجعية الدينية التي بدأت تستشعر مكامن الخطر على العملية السياسية التي رعتها منذ ثلاثة عشر عاماً، وبالتالي سوف تعمل، هي الأخرى، على احتواء الغضب الجماهيري قبل أن تتطور الأوضاع إلى ما لايحمد عقباه ويغرق العراق في بحر من العنف والدم لا سمح الله. فالسياسيين الذين يحكمون اليوم مستعدين لعمل كل مايمكنهم عمله لحماية جماعاتهم ومافياتهم الفاسدة التي تعبث في أرض العراق. فاستمرار الحراك الجماهيري وبوتيرة متصاعدة، وممارسة المزيد من الضغوط والتهديد بالاعتصامات والعصيان المدني وحده الكفيل بتلبية المطالب الجوهرية وانتزاع المزيد من التنازلات حتى لو تطورت المواجهة السلمية إلى مواقف حاسمة، على غرار ما حدث في مصر في الأمس القريب، على أمل ألا تنزلق على نحو تراجيدي وتتطور سلبيا على غرار ما يحدث الآن في سوريا. فماتزال الطبقة السياسية تمتلك المزيد من الأوراق الكثيرة والخطيرة بيدها لتسويف المد الشعبي وتثبيط الهمم والمراهنة على عامل الوقت والتعب والإنهاك النفسي والمعنوي والمادي، قبل توجيه الضربة القاصمة للحراك الشعبي والذي سيطال العلمانيين والتيار المدني الديموقراطي والمستقلين والليبراليين، فالأمر ما يزال في بدايته والحراك الشعب مايزال عفوي وحماسي ويفتقد للقيادة الحقيقية المتمرسة والنظيفة والواعية التي بمقدورها أن تقرأ موازين القوى على الأرض بشكل صحيح.

مهمة رئيس الوزراء العراقي شاقة لأنه يواجه ظرف دولي وإقليمي وداخلي بالغ التعقيد والخطورة فمن جهة هناك جماعات داعش الإرهابية التي ما زالت تشكل خطراً داهماً على العراق برمته، ومن جهة أخرى التدخلات الإقليمية من قبل دول الجوار العراقي ولكل حساباتها وأنجدتها الخاصة، وأخيرا الموقف الدولي الغامض من أزمة العراق والمواقف المزدوجة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وقوات التحالف الدولي التي من المفترض أنها موجودة لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي وتدميره، وهناك الواقع الميداني العراقي الداخلي المفعم بالتناقضات والغائص في بحر من الفساد والعناصر المنفلتة المدججة بالسلاح و والمتخمة بالمال والمتمسكة بمخالبها وأسنانها بالسلطة وهي تتعارض مع الجماهير بالتوجهات والأهداف وباتت تتكاثر على نحو مرعب كالفيروسات وتمد أذرعها كالإخطبوط إلى كافة مرافق الدولة وبالتالي يمكن توقع ردود افعالهم وشدتها والتي لا يمكن إلا أن تكون عنيفة ولا يمكن تجاهل ثقلهم العسكري والمالي وتأثيرهم، وبالتالي لايمكن التعاطي معهم بليونة وتساهل وبأسلوب النوايا الحسنة لطمأنتهم على امتيازاتهم.

لا بد لرئيس الوزراء الدكتور العبادي أن يمتلك قوته الميدانية الخاصة متمثلة بالجيش والقوى الأمنية التابعة له والمنفذة لأوامره، بعد غربلتها وتصفيتها من العناصر المشبوهة، لمواجهة القوى المسلحة غير الشرعية أو الخارجة عن القانون وأن يحيط نفسه بعناصر كفوءة ونزيهة ومتمرسة لإدارة المشهد السياسي والإعلامي والعلاقات العامة. وعليه أن يتحلى بالشجاعة والجرأة في كشف الحقائق وتسمية الأشياء بمسمياتها وإطلاع الشعب، وبالأسماء والوثائق، على كل من أساء ونهب وسرق وتقاعس وعرقل مهمة إعادة البناء والإعمار الحقيقية بعد سلسلة الحروب المدمرة التي عاشها العراق في العقود الأخيرة منذ عام 1980 إلى يوم الناس هذا. فملفات الفساد والخدمات وإعادة النظر على نحو جوهري بالعملية السياسية برمتها، هي الإصلاحات العاجلة التي يجب أن تتحقق ولو على مراحل لإعادة الثقة في نفس المواطن العراقي اليائس والمحبط من كل ما مر عليه خلال العقود الماضية فالشعب العراقي، رغم الكوارث التي مر بها، ما يزال يعي ويدرك حقيقة ما يجري ويعرف التفاصيل و مفتح باللبن كما يقول المثل العراقي فلا يجب أن يستهان به. هذه فرصة تاريخية لن يكررها الزمن وما على الدكتور العبادي إلا أن يقتنصها ليحفر إسمه في التاريخ السياسي للعراق كزعيم وطني نزيه أو أن يضيعها من بين يديه وتحل الكارثة على الجميع.

&