لايبدو إلى الآن أن حزمة الإصلاحات التي أقرها مجلس الوزراء ومررها البرلمان العراقي، وإن كانت جيدة كبداية، تلبي مطالب المتظاهرين المتنامين والمتزايدين عددا ً وتأثيرا. فإصلاحات العبادي تصب في خانة الترشيق الحكومي، وإن كانت ضربة موجهة لبعض القوى والأحزاب، إلا إنها لاتعدو من أن تقلص حجم الأنفاق الغير مبرر في وقت تهبط فيه أسعار النفط مسببا ً عجز في الميزانية. فهي لاتمس هموم المواطن المباشرة في موضوع الخدمات ولا هي بخطوة أولى للقضاء على الفساد. لم يمس السيد العبادي وإصلاحاته إلى الآن الدولة العميقة في العراق فهي المهيمنة على مكامن القوى في الحكومة والبرلمان وباقي المؤسسات الرسمية والشبه مستقلة. لايستطيع السيد العبادي بكل قوته أن يسقط تلك الدولة العميقة التي تعيش على ماكنة الفساد ولكنه بالتأكيد يستطيع أن يلوي ذراعها وأن يضعفها بتقليم أظافرها.

الدولة العميقة هي مجموعة من القوى والتحالفات داخل الدولة وخارجها أفقيا ً وعموديا ً تربطها شبكة من العلاقات الغير رسمية، لها مصالح وأهداف مشتركة وتعمل بشكل غير منظم وممنهج ولايعرف بعضها البعض في الغالب، فلا شكل لها ولاكيان فهي هلامية بلا ملامح. تحاول تلك القوى أن توجه السياسات العامة للدولة بما يخدم مصالحها من خلال الهيمنة والنفوذ بأذرع مختلفة متغلغلة في الطبقة السياسية، والنظام البرلماني التشريعي، والنظام القضائي، والنظام المالي من خلال رجال أعمال ومتنفذين من التجار، والثقافية والإعلامية من خلال مثقفين وفنانين وإعلاميين تشتبك مصالحهم مع تلك الدولة، والأخطر هو ذراعها الأمني في شبكة من الضباط والأمنيين في الجيش والشرطة والمخابرات. أن مصطلح الدولة العميقة له جذوره في تركيا العلمانية في بداية نشئتها حينما كانت هناك قوى من إرث الخلافة العثمانية دخلت في النظام العلماني الجديد وتستخدم الديمقراطية لضرب الديمقراطية. فهي الدولة الموازية أو دولة داخل الدولة تعمل بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة على ضرب الدولة من داخل الدولة نفسها بإستخدام نظامها. ففي مصر لم يستطع مرسي الإستمرار بعد أن تخلت عنه المؤسسة العسكرية والداخلية والجهاز القضائي والإعلام وهما جوهر الدولة العميقة في مصر.

أما في العراق فكلنا يعرف من يمسك الدولة العميقة من قوى اسلامية محافظة، سنية وشيعية، هيمنت على مؤسسات الدولة وبنت شبكة من العلاقات المصلحية المشتركة تغلغلت في جميع مفاصل الدولة وهيئت قاعدة جماهيرية كبيرة ولها أذرع مليشياوية طويلة. إن مايوحد تلك القوى المحافظة على اختلاف مذاهبها هو الفساد بشقيه المشرعن وغير المشرعن. لاننسى هنا بأن المرجعية الدينية وفرت الغطاء الشرعي في دعم قائمة التحالف للفوز في الإنتخابات بأسم الديمقراطية مع أن كل أدبيات تلك الأحزاب تخلو من كلمة الديمقراطية. تصاعدت الهيمنة في زمن المالكي الذي حاول السيطرة على المؤسسات المستقلة مثل نقابة الصحفيين، السيطرة على القضاء، الإستحواذ على شبكة الإعلام العراقي، الصراع على البنك المركزي في زمن الشبيبي، الإتحادات الرياضية، الوقفين الشيعي والسني وغيرها مثل إنشاء مجالس الإسناد للعشائر. ولكن، وبعد فترة، بالخصوص تحذيرات الحوزة للمالكي ورفع اليد عنه والنأي عن دعم أي حزب أو قوى وتصريحها بأنها تقف على مسافة واحدة من الجميع فقدت الدولة العميقة الغطاء الشرعي الذي غلغل نفوذها وأنها فكرة الولاية الثالثة للمالكي. لكن، إلى الآن مازلت الدولة العميقة تهيمن على مفاصل الدولة والمؤسسات بالخصوص القضاء والبنك المركزي وبعض الهيئات المستقلة.

نعم، لقد خرجت الجماهير في كل مكان، ووقفت المرجعية مع مطالب المتظاهرين التي تحاول قوى الدولة العميقة مصادرتها. تلك القوتان مهمتان لإجراء إصلاحات لكنهما غير كافيتين لإتمامهما لتغلغل قوى الدولة العميقة في كل مفاصل الدولة. ولو فرضنا أن العبادي إستطاع حل البرلمان فأن نفس القوى ستعود من جديد لنفس الوجوه الكالحة لعدم وجود قوى سياسية منظمة داخل وخارج البرلمان توازي في قوتها القوى المحافظة المهيمنة على صياغة السياسة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية للدولة. لذلك، لابد من إجراءات يتخذها السيد العبادي، وخطوات يتخذها المتظاهرون لإنجاز واتمام حركة الإصلاح التاريخية بعد أن سحبت المرجعية البساط من تحت كل قوى الإسلام السياسي. فعلى العبادي البدء بسحب يد الدولة من الهيئات المستقلة بالخصوص البنك المركزي الإعلام والمفوضية العليا للإنتخابات وإخراجها من دائرة المحاصصة الطائفية. إصلاح القضاء من رئسه حتى قدميه والحرص على الحفاظ على إستقلاليته التامة. تشكيل حكومة تكنقراط وإنتخاب مستشاريين مستقليين يصوغون طبيعة السياسة الاقتصادية والاجتماعية واستراتيجية العلاقات الخارجية من جديد وبما يتلائم مع الدستور. تلك الخطوات ستلوى ذراع الدولة العميقة وتحد من نفوذها. ولاننسى هنا فتح ملفات الفساد بكل عناوينها.&

أما ماعلى المتظاهرين فلابد من إنجاز شيئين مهمين الأول تكتيكي والثاني استراتيجي من خلال تجارب سابقة بالخصوص مصر. أما التكتيكي فالإسراع بتنظيم لجان تنسيقية بين المحافظات توحد مطالب المتظاهرين والتي ستفرز قيادات ورموز غير ملوثة بالفساد كطبقة سياسية جديدة نابعة من الجماهير وتبني تحالفات مع قوى داخل البرلمان من قوى مدنية وخارجه كالمرجعية الدينية. أما الاستراتيجي فالحرص على تدشين حركة سياسية اجتماعية كباقي الحركات في كل دول العالم هدفها بناء كتلة برلمانية بديلة للكتلة المحافظة تكون ند لها ومعارضة لها. ترتكز تلك الحركة وتتحالف مع منظمات المجتمع المدني وتتحالف مع النقابات والاتحادات الطلابية والنسائية وغيرها من أجل التواصل مع كم أكبر من الجماهير. العمل على تقوية تلك النقابات والاتحادات فهي مغيبة بفعل فاعل بالخصوص النقابات العمالية والحركات النسوية والاتحادات الطلابية.&

من جديد، أن طريق الإصلاح طويل جدا ً ليلمس المواطن ثماره لكن البداية قد حانت الآن. الفرصة مؤاتية الآن لكل من الجماهير التي سوف لن تسكت على فساد الطبقة السياسية من جديد. لكن، أمام تلك الجماهير طريق طويل للتغير بحاجة لصبر وتخطيط ودعم وتحالفات داخلية كثيرة ودعم خارجي من خلال الإعلام الغربي بالتواصل مع صحف وشبكات إعلامية عالمية ومنظمات مجتمع مدني دولية تتبنى وتساعد على التمنية البشرية والتحول نحو الديمقراطية.&

&

[email protected]&