&لا يمكن إنكار حقيقة تحول إيران إلى قوة فاعلة رئيسية في الساحة العراقية، وعلى مختلف الأصعدة؛ إذ تمارس دورًا مؤثرًا في العراق، ورمت بثقلها للمحافظة على هذا الدور وتعزيزه باستمرار، لإدراكها أهمية العراق الاستراتيجية، وكونه بمثابة بوابة مهمة للدخول إلى المنطقة العربية، ومن خلاله يتحقق التواصل الملائم لإيران مع حلفائها في باقي دول المنطقة.

هذا الدور ذو الأبعاد السياسية، الأمنية، الاقتصادية، والعقائدية، ما كان ليصل إلى ما هو عليه لولا الأزمات التي يمر بها العراق؛ إذ أُتيحت الفرصة الأولى لإيران لمد نفوذها في العراق بعد الاحتلال الأمريكي في مرحلة ما بعد 9 إبريل 2003.
وجاءت الفرصة الثانية في ظل الأزمة الأمنية التي يشهدها العراق منذ مطلع عام 2014، وتفجرت في 10 يونيو من العام ذاته بعد استيلاء تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) على عدد من المحافظات العراقية. فقد مر الدور الإيراني بمرحلة جديدة حينما أخذ شكلا أمنيًّا حاسمًا في الحرب ضد تنظيم داعش في العراق من خلال وجود ضباط وخبراء وقوات إيرانية بشكل مباشر في الساحة العراقية، وكذلك عن طريق بيع الأسلحة والمعدات العسكرية وتقديم المعلومات الاستخبارية للقوات العراقية(.
يتخذ الدور الذي تمارسه إيران في العراق أشكالاً عدة تتمثل في الدور السياسي، حيث تلعب إيران بقوة في العراق بما تملكه من علاقات وروابط بالحكومة العراقية والحركات والأحزاب السياسية الفاعلة في العملية السياسية ومراكز صنع القرار، الأمر الذي يسهل لها التأثير في الأحداث والتطورات الجارية والسياسات المتخذة في العراق.
وسياسيًّا تعمل إيران على استمرار خلخلة الأوضاع السياسية في العراق بما يجعل الحكومات العراقية ضعيفة، وإيجاد نخب سياسية تدين بالولاء والطاعة لإيران، فبقدر ضعف وحاجة الحكومات العراقية لإيران بقدر ما ستحقق إيران مصالحها. يُضاف إلى ذلك بروز الدور الإيراني في القرار العراقي عبر تقديم الاستشارات للسياسيين وصناع القرار العراقيين حول العديد من القضايا والمشكلات العراقية السياسية والاقتصادية، وهو ما يظهر جليًّا في التطورات الداخلية العراقية، وموقف العراق من القضايا الخارجية، وليس آخرها تبعية الموقف العراقي لإيران من الأزمة السورية، وعاصفة الحزم، وأحداث استهداف البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران.
اقتصادياً، تتغلغل إيران في العراق في مختلف القطاعات الاقتصادية والصناعية وقطاعات الاستثمار والسياحة الدينية والقطاعات التجارية، وتحصل على تسهيلات كبيرة تتمثل في منح التأشيرات للتجار والمستثمرين الإيرانيين، وإغراق الأسواق العراقية بمنتجات وسلع إيرانية استهلاكية ورخيصة، حتى تمكنت إيران من أن تكون الشريك التجاري الرئيسي للعراق، ومن أكبر المستثمرين فيه منذ عام 2003، إذ وصلت الاستثمارات الإيرانية في العراق إلى ما يقارب 12 مليار دولار، ويوجد 4 مصارف مشتركة بين الدولتين لتعزيز التدفقات المالية، وتتولى الشركات الإيرانية مشاريع بناء 4 ملايين وحدة سكنية في العراق.
أمنياً وعسكرياً تنشر إيران قوات عسكرية ومستشارين ومدربين عسكريين، وتنفذ المقاتلات الإيرانية طلعات جوية على طول الشريط الحدودي مع العراق، تحت مبرر حماية الزوار والمراقد الشيعية ودعم الحلفاء من أحزاب سياسية وفصائل مسلحة. كما تسعى إيران إلى تعزيز وجودها وأنشطتها الاستخباراتية في كردستان، ونشر عملاء سريين من المخابرات الإيرانية، ويوجد في السليمانية مقر عمل لـ"قرارغا -إي رمضان" وهو قسم تابع لقوات الحرس الثوري الإيراني مسؤول عن شمال العراق.
تتنوع وسائل التأثير الإيرانية على الأحداث في العراق، فلتأثير العقائدي ينصب في المرتبة الأولى على البعد المذهبي بصورة حكمت سياستها وعلاقاتها مع الأحزاب والحركات السياسية والمسلحة، لا سيما تلك التي تؤمن بـــ"ولاية الفقيه". وفي المقابل تعتبر القوى والأحزاب الإسلامية ذات الانتماء الشيعي إيران بعدًا وعمقًا استراتيجيًّا لها ولنشاطها، الأمر الذي استطاعت إيران استثماره للتأثير عليهم بتقديم نفسها بأنها "حامية المذهب" ومصدر للفتاوى التي ينساق لها قطاع كبير من الشيعة في العراق.
كما تعمل إيران على التأثير في نتائج الانتخابات المختلفة من خلال دعم مرشحيها المفضلين، وتقديم المشورة لهم، وتشجيع حلفائها على خوض الانتخابات تحت قائمة موحدة لمنع تقسيم أصوات ناخبيهم، ولأجل ضمان تأمين مصالحها بغض النظر عمن يكون الفائز، قامت طهران بتأمين رهاناتها من خلال دعم عدد من الأحزاب والحركات الشيعية التي تدين بالولاء للنظام الإيراني.
كما يمثل الدعم المالي الكبير الذي تُقدمه إيران للأحزاب والحركات السياسية والمسلحة في العراق أحد أهم عوامل التأثير الفاعلة لإيران عليها. ويتخذ هذا الدعم شكلين: الأول هو الدعم المالي المباشر للأحزاب والتيارات والميليشيات (قادة وأعضاء)، أما الشكل الثاني فيتمثل في وضع إيران للأموال في خدمة الكثير من رجال الدين بغرض التأثير الفكري والسياسي والديني من خلالهم على المجتمع العراقي.
لكن سيطرة إيران على العشرات من وسائل الإعلام والقنوات الفضائية الإيرانية والعراقية، يجعل من تأثيرها على الرأي العام في العراق والأفكار والتوجهات لصالحها أكثر سهولة، وتروّج وسائل الإعلام هذه للرؤى الإيرانية فيما يخص الشأن العراقي، أو التطورات والأحداث التي تشهدها المنطقة.
لم يكن الدور الإيراني في العراق نابعًا من قوة إيران فحسب، بل نتيجة الظروف والمتغيرات الداخلية العراقية والإقليمية والدولية، وقد استغلته إيران كورقة ضغط وتفاوض في ملفاتها الدولية وتحقيق مكاسب لها على حساب العراق دون النظر حتى لحلفائها العراقيين، كما أن دور إيران في العراق أضر بالعراق والعراقيين أكثر مما حقق لهم من مصالح، وكان سببًا في عزل العراق عن حاضنته العربية الأم، وتحول إلى مجرد ولاية او محافظة إيرانية تنتظر القرارر السياسي والسيادي من طهران أياً كان ومهما كان الثمن والتكلفة!

هشام منوّر... كاتب وباحث
&