&
&
عانت المجتمعات الغربية من الصراعات الدينية والطائفية والخلافات العرقية والأيديولوجية قرون طويلة، حتى استعوبت بأن التنمية المستدامة تحتاج لتناغم وانضباط المجتمعات، واحترامها للاختلافات الدينية والفكرية والسياسية، مع ضرورة الإلتزام بتطبيق أنظمة وقوانين ودساتير المجتمع. بينما عاش الشرق الأوسط منذ زمن بعيد على ثقافة، "نحن قوم لا توسط بيننا، لنا الصدر بين العالمين أو القبر."هذا البيت من قصيدة للشاعر أبو فراس الحمداني، الذي ولد في العراق، وعاش في سوريا، ولا أعرف كيف سيغير قصيدته، لو عاد للحياة اليوم، وعاش أوضاع الشعبين السوري والعراقي. كما وصف واقع بدء حياتنا المفكر اللبناني، زياد &الرحباني، حينما قال: "بعد خمس دقائق من ولادتك، سيقررون إسمك، جنسيتك، دينك وطائفتك... وستقضي طوال حياتك تقاتل وتدافع بغباء عن أشياء لم تخترها." بينما أكمل حقيقة ممارسات وجودنا، الإعلامي السعودي، أحمد الشقيري، حينما قال: "إذا اجتمع خمسة صينيين، كتبوا حكمة. إذا إجتمع خمسة يابانيين، اخترعوا آلة. إذا اجتمع خمسة امريكان، اخرجوا فيلم. إذا اجتمع خمسة بريطانيين، كتبوا كتابا. إذا اجتمع خمسة عرب، شكلوا خمسة طوائف وخمسة أحزاب وخمسة قوانين؛ ليعلن كل واحد منهم أنه الرئيس، ودون جلسة نقاش واحدة، تبدأ التحالفات، ثم الخصومات، ثم الكره، ثم الفتنة، ثم التكفير، ثم إستيراد الأسلحة... وتبدأ المعركة! والكل خاسرون، ويقولون انها مؤامرة من الغرب الصليبي الكافر ضد الإسلام والمسلمين." وبذلك يعاني اليوم الشرق الأوسط من تمزق إيديولوجي، طائفي، أخلاقي، مرعب. فقد أرتفعت مؤخرا شرارة الصراعات الدموية لخلافات الإمامة والخلافة، بعد عقود محزنة من الصراعات الأيديولوجية. وبين طوفانات هذا &المحيط من ثقافة الجهل والتعصب والتفرق، تبدو في الأفق واحة أصوات تناغمية مبدعة، تنظر لاختلافات الجنس والنوع والدين والطائفة والعرق والأفكار والأيديولوجيات، كتباين ألوان الطيف الجميلة، بل تعتبرها سببا للإبداع والتطور.
فهل تصدق عزيزي القارئ أن تجد في هذا الأجواء المحزنة صحفي يجمع بين السلفية واللبرالية، أو اعلامي يؤمن بأننا جميعا مسلمون، منا من أسلم بالقرآن ومنا من أسلم بالإنجيل، أو سياسي يجمع بين عروبة الوطن، ومسيحية النشأة، وسنية الثقافة، وشيعية التعبير؟ ويبقى السؤال: كيف يمكن أن يجمع شخص هذا التناغم الجميل في الخلق بين الفكر والدين؟ أليس أصل الأديان جميعها الأخلاق بروحانيتها وبتناغمها وبحكمتها؟ ألسيت هذه الصفة التي وصف بها الخالق جلت عظمته نبيه الكريم: "وأنك لعلى خلق عظيم"؟ وهل تحتاج مجتمعاتنا لهذا النوع من التناغم النفسي والروحي والأخلاقي الجميل؟ وكيف سننشئ جيل يؤمن بأن الدين هو واحة من ثقافة الأخلاق والروحانيات التناغمية الجميلة؟
للإجابة على هذه الأسئلة، سأعرض ثلاث مقابلات تلفزيونية، الأولي لعملاق الصحافة العربية الإلكترونية، الأستاذ عثمان العمير، والأخرى للإعلامي الكبير الأستاذ جورج قرداحي، والثلاثة للسيدة فوليت (زوجة وزير خارجية العراق السابق طارق عزيز) وإبنتها زينب. ولأوكد في البدء بأنني قد أختلف سياسيا مع أفكار بعض هذه الشخصيات التي سأعرضها، ولكن في إعتقادي، علي في نفس الوقت، أن أقبل بصدر وقلب رحب هذه الاختلافات، وهذا القبول هو أساس اختيارنا جميعا مناقشة أفكارنا، على صفحات اعلامنا العربي، بدل أن ننشغل بتطرف فكر القتل والدبح والتوحش والانتقام والتدمير.
يعرف الأستاذ عثمان العمير في المقابلة الأولى شخصه الكريم باللبرالي السلفي، فلا يجد ضيرا في أن يكون ليبراليا، لأن اللبرالية لا تنقص من سلفيته السياسية ولا من سعوديته، لأنه لا يتغير وفق المكان الذي هو فيه، بل يتكيف معه فقط. ويرى العمير أن السعودي اللبرالي الذي يتبنى فكرة ويعتبر الآخرين خطأ ليس ليبراليا، فهناك بعض اللبراليين يعتقدون بأن نفي الآخر هو لبرالية. وهذا هو أساس الخلاف بينه وبين بعض اللبراليين، معترفا بوجود خطأ وصواب في الدنيا، لكن ليس نحن الذين نقرر ما هو الخطأ وما هو الصواب، بل تقرره الظروف، وتقرره الحياة، وتقرره المجتمعات، ولكن لا يجوز أن نقول أنا الحق والآخرون خطأ، وتسمي نفسك ليبراليا أو سلفيا. كما لا يجد الأستاذ تناقضا بين لبراليته وسعوديته، وهو السلفي سياسيا، ويوضح ذلك بقوله: "لأنني ملكي، تأييدي للعائلة المالكة في السعودية، وإيماني بالدولة السعودية إيمان شبه مطلق، وهذا لا يتعارض مع كوني ليبراليا، وأفكر بأن المملكة من الممكن أن تكون في يوم من الأيام ليبرالية، واللبرالية ليست كفرا أو مضادة للدين كما يعتقد بعض الناس، بل هي منهج في الحياة والإقتصاد، نعم أنا لا أشجع أن نلغي أي طائفة أو أي مكون ديني أو اجتماعي في المجتمع، أيا كان حجمه، إلا إذا مارس الارهاب." مؤكدا بأنه ليس بالضرورة أن تكون الكلمة سببا لأن يحارب الانسان، ومشددا على أن السعودية ومنذ عهد الملك عبد العزيز كانت منفتحة، وكان الملك عبد العزيز لديه المستشار الليبرالي والمسيحي والعلوي والشيعي، والمستشارون من مختلف أنحاء الوطن العربي، فالمملكة جزء من هذا التصور القادر على هضم التيارت. كما تحدث الأستاذ العمير عن النظام الإيراني فقال: "إيران جارة وقريبة منا كثيرا، ولدينا معها شراكة على مستوى التاريخ والثقافة والدين، مع الأخذ في الاعتبار العداوات التي يكنها بعض الموجودين في النظام الإيراني تجاهنا. كلما كان الجنوح إلى السلام والتعاون، سيكون ذلك أفضل للجميع... طبعا نحن لا نعتبر إيران ملاكا، لكن نقول إن الشعب الإيراني 70 أو 80 مليون إنسان، وهذا الشعب جالس إلى جانبنا، ولا نستطيع أن نأمره بمغادرة هذه البقعة الجغرافية فورا، كما أنهم لا يستطيعون أن يأمرونا بمغادرة بقعتنا فورا، فليس امامنا إلا التفاهم، هناك طبعا جهات عنصرية وجهات متطرفة داخل المؤسسة الإيرانية، وخاصة الحرس الثوري، تقود معركة الكراهية ضد الخليج إلا أن السياسة لا ثقة فيها، وإذا كان بيننا وبين إيران مصالح كبرى فستؤدي هذه المصالح إلى بناء الثقة."&
أما المقابلة الثانية فلزوجة الأستاذ طارق عزيزي، رحمه الله، السيدة فيوليت وإبنتها زينب. فقد لفت نظري ستة أمور في هذه المقابلة، الأولى لطف وهدؤ وإدب الحوار لهذه الشخصيتين. وثانيا، البساطة التي عاشتها هذه العائلة، فمع أن طارق عزيز كان قريبا جدا من صدام حسين، ولكن لم يملك شيئا، وحتى بيته الذين كان يسكنه، الذي سرق منه، ويسكنه اليوم عمار الحكيم، بناه بنفسه، بعد أن أعطى الدولة بيته القديم، حيث لم يكن في ذلك الوقت مسموح الجمع بين بيتين في بغداد. وثالثا، فمع أنه ولد مسيحيا، ولكن كانت ثقافته الروحية مسلمة، وفي الوقت الذي كان قريبا جدا من صدام حسين السني الطائفة، وزوجته مسيحية وإسمها فيوليت، سمى ابنته زينب. ورابعا، ومع أن &ثقافته الروحية كانت إسلامية، وكانت أمامه فرصة أن يصبح رئيس وزراء العراق، لو تحول إلى الإسلام، ولكن أبى أن يسمح لأحد أن يشكك فيه بأنه قربه للإسلام بسبب حبه للمركز. وخامسا، سلم نفسه طوعيا، بشرط أن تحمي القوات الأمريكية عائلته وترسلهم للأردن، وسادسا في الوقت الذي كان يحاكم، ومعرض للشنق، وقف في وسط المحكمة، وبكل عفوية، ليؤكد بأنه كان شرف عظيم له بالعمل مع صدام حسين. فكم منا سيقف هذا الموقف المشرف، وهو معرض لحبل المشنقة، بغض النظر عن الشخصية التي دافع عنها؟&
وفي المقابلة الثالثة يرد الإعلامي العربي الأستاذ قرداحي، على إتهامه بأنه أرتد على مسيحيته، وأعتنق الدين الإسلامي، فيقول: "لي الشرف أن أنتمي للإسلام، وعندي إعجاب بالنبي محمد، الذي أتى وغير زمن الجاهلية، ليصبح اليوم أتباعه مليار ونصف حول العالم. لا أريد أن أنفيها، وأقول لا، أنا أقول بأنه ليس هناك فرق بين الديانتين المسيحية والإسلام، طبعا جاء الإسلام بعد المسيحية بحوالي 620 سنة، في ذلك الوقت كانت البيئة في الجزيرة مسيحية، السيدة خديجة رضي الله عنها كانت مسيحية، ورقة بن نوفل عمها كان مسيحيا وكان على صلة بالنبي. ما أريد أن أقوله بأنه ليس هناك ضرورة لتغير ديانتي من المسيحية للإسلام لأن هاتين الديانتين تكمل أحدهما الأخرى، ويقول القرآن الكريم: "ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك إن منهم قسيسين ورهبانا، وإنهم لا يستكبرون." وآية كريمة ثانية تقول: "لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا، وأنزل إليكم، وإلاهكم وإلاهنا واحد، ونحن له مسلمون." فليش إذا إلاهنا وإلاهكم واحد، ونحن له مسلمون، بالقرآن أو بالإنجيل، &ليش أنا بغير ديني. الإسلام ليس بعيد عن مسيحيتي، ومسيحيتي ليست بعيدة عن الإسلام، أنا أعتبر هذه الديانات السماوية وخاصة المسيحية والإسلام ديانتان قريبتان. ما في داعي لأعتنق الإسلام، فالموجد في الإسلام موجود عندي في المسيحية، فليش؟ وفي جوابه على سبب حفظه للآيات القرانية قال: "محبتي للغة العربية، وعشقي للغة العربية، وكمان محبتي للنبي محمد، ولتعاليم الإسلام، أنا كمسيحي، هذه ثقافتنا، دائما أقولها، نحن موجودين كمسيحيين، في هذا البحر الإسلامي، هذه ثقافتنا، هذا هو تاريخنا. &أنا زلمة ولدت مسيحيا، وولدت مارونيا، وسأبقى مارونيا، وأنا ماونيتي هي قوميتي، نحن بلبنان مذاهبنا هي قومياتنا، لي قومية، ما عادت قصة إنتماء ديني وروحي، ما عادت موضوع اللغه وبصلي، فهذا إنتماء قومي، نحنا جدودنا عاشوا بهذه الأرض، عاشوا بهذه الجبال، عاشوا بهذا الوعر، فتتوا الصخر حتى يستطيعوا أن يعيشوا ويتجاوزوا صعوبات الجغرافيا، وصعوبة التاريخ، لا أستطيع أن اتنكر، أنا أنتمي لهذه البيئة. جدودي قضوا بوادي النوبين عشرات السنين، هربا من الإضطهاد، هربا من الظلم، ولكي يعيشوا احرار، وعاشوا وتعمشقوا بجبال لبنان العسيرة الصعبة، التي لا يستطيع أن يصلها الغازي، لكي يظلوا محافظين على حرياتهم. أما سبب حفظي للآيات القرانية لأن معظمها، هي آيات خريطة طريق، ومختصرة، عندك السهل الممتنع أولا، ولغة الإعجاز ثانيا، من السهل جدا أن تحفظ آيات قرانية. فمثلا: "إذا جائكم فاسق بنباء فتبينوا، ألا تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما عملتم نادمين." أليس هذا مبدأ للحياة لكل إنسان؟ أجد في هذه الآية تعليمات المسيحية. أما علاقتي مع ربي فهي علاقة خاصة مباشرة بدون وسطاء." كما سألت أيضا مقدمة البرنامج إن كانت هي مسلمة أو مسيحية فجاوبت: "الدين أخلاق، والباقي تفاصيل." ويبقى السؤال القارئ: هل فعلا الدين أخلاق؟&
& لقد دفعني هذا السؤال لمراجعة القاموس لمعرفة معنى كلمة الخلق، والتي وصفت بأنها حال للنفس راسخة، تصدر عنها الأفعال من خير أو شر، من غير حاجة إلى فكر وروية. وفي التنزيل: "وإنك لعلى خلق عظيم." أي لعلى أدب عظيم، وطبع كريم، والتأدب بآداب الله التي أدب بها عباده في كتابه، وقد قيل إن الدين كله خلق. بل أكد الرسول ألأعظم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق." فالأخلاق هي جوهر الرسالات السماوية على الإطلاق.&
وأما عن التجربة اليابانية، فقد فصلت الدين تماما عن السياسة والتعليم. بل ركز التعليم الياباني على تربية قواعد الاساسيات الدينية، وهي الأخلاق. فلو سألت أي شخص ياباني عن دينه فلن تجد جوابا، ولكن تجد الجواب في ممارساته اليومية من أخلاقيات السلوك، في البيت في المدرسة في العمل وضمن مؤسسات المجتمع. فمنذ أن يولد الطفل تهتم العائلة أولا بربط الطفل بأحضان أمه، ليس فقط ليتغذي من حليب ثديها، بل ليتغذى من حنان عطفها، وحينما ينهي السنة الأولى من عمره، تجمع التربية حنان الأم ومتعة الحضانه وبدء ممارسات خلق السلوك. وبعد السنة الثالثه يبدأ الطفل التعلم بتعرفه على حواسه الخمس، وإتقان استخدماتها، وآداب السلوك والأخلاقيات، ويكمل دراسته التقليدية من الدراسة الابتدائية وحتى إتمام الثانويه، وهو يدرس أسبوعيا فصلين عن أخلاقيات السلوك. وخلال جميع هذه المراحل يستقي الطالب من منابع العلم والمعرفة، ويتدرب على التكنولوجيات الحديثه، في الوقت الذي يمارس ويطور سلوكه الأخلاقي الإنساني. فتجد المواطن الياباني مرتبط بشكل غير مباشر بدون تعصب بروحانيات الدين، فمثلا، هناك حوالي مائة وستون معبدا بوديا وضريحا للشنتو، وتجد متوسط الزيارة السنوية لكل معبد حوالي سبعة ملايين شخص، كما أن المواطن الياباني يحتفل بولادة طفله في ضريح الشنتو، ويحتفل بزواجه في قاعة الكنيسة، حيث هناك قاعات كثيرة في الفنادق لتلك الخدمة، بينما تتم مراسم الوفاة في المعبد البوذي، وفي موسم الامتحانات تجد الطلبة موجودين في المعابد للدعاء بنجاحهم. ولو قارنا ما مدى إلتزام اليابانيين بالدين، فلنجد بأنه حينما قامت جامعة اماراتية باجراء مقارنة عن أمانة الأخلاق بين اليابان والشرق الأوسط، بإلقاء محفظة للنقود، بها ما يعادل الثلاثة مائة دولار في وسط السوق، تبين بأن 100% من اليابانيين أخذوا المحفظة لمركز الشرطة للبحث عن صاحبها، بينما أختفت المحفظة في الشرق الأوسط خلال دقائق، في 100% من الحالات. ويبقى السؤال: هل حان الوقت ليركز تعليمنا على واحة الثقافة الدينية للأخلاق والروحانيات التناغمية، ويتجنب الثقافة الطائفية للتعصب المقيته؟ ولنا لقاء
د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان
&