يعتمد وريث الخلافة العثمانية، الرئيس رجب طيب اردوغان، في تصريحاته الداعية الى إبقاء العرب السنة والتركمان حصرا في الموصل بعد تحريرها من داعش، على "شرعية" ان العراق مقسم. شرعية غير معروفة في المعايير والقوانين الدولية، لكنها بالنهاية اللاأعراف واللاتقاليد التي تسود شريعة الشرق الأوسط منذ حرب الخليج.

المفارقة الأكثر اثارة في هذا الصدد، ان آخر تقسيم مرت به بلاد ما بين النهرين هو تقسيمها من قبل العثمانيين الى ثلاث ولايات، منذ النصف الأول من القرن السادس عشر وحتى سقوط الخلافة. وأردوغان المتذرع بان العراق منقسم، يتناسى أن هذه البلاد تدفع فاتورة الأستانة التي عاثت فيه الفساد والجور والطغيان والتمييز، وعمقت مع الصفويين صراعاً طائفيا ممتدا الى اليوم. وان أكثر مظاهر انقسام العراق الحالي ليست امتدادا للعباسيين والامويين وواقعة الطف والسقيفة، بل امتداد للقرون الخمسة الماضية.

اردوغان الذي يتحدث عن التقسيم، يسعى لتجربة حظه في العراق كما جربه في عملية درع الفرات في سوريا. الهدف هو استحضار ارث الأجداد العثمانيين الذين ارتبكوا مذابح "سيفو". فهو لا يريد ان يرى في منطقة اطماعه اشوريين وسريان،.والهدف ايضا هو المساومة على تدخل الحشد الشعبي في نينوى، والهدف الأكبر هو صناعة مجال مناطقي موال له يكون حاجزاً جغرافيا بين كردستان العراق وكردستان سوريا. كما ان من المحتمل ان يكون ساعياً الى ابتزاز الأمريكيين لمساومتهم في قضايا عدة، وان تصريحاته تندرج ضمن حرب الضغط للحصول على مكاسب في مجالات أخرى او في نواح ثانية.

بالتأكيد ان تدخل الحشد "الشيعي" في الموصل ذات الغالبية السنية أمر يثير حساسية بالغة ومخاطرة كبيرة، ليس لأن انقرة ترفض ذلك، بل لأن هذه المحافظة العراقية تستحق جهداً مختلفاً عن أي منطقة أخرى. وذات الحديث ينطبق على تدخل البيشمركه، لأن الحساسية القومية في واحدة من الحواضر العروبية قد يفجر نمطا من الصراع يخرج المدينة من محنة ويدخلها في محنة أخرى. نينوى يفترض أن تتحرر بقوات عراقية تبعث رسالة وطنية وفي الوقت نفسه تسترد كرامتها التي هدرت حين فرّت قبل عامين ونيّف امام جنود الخليفة، كما يستعان بأبنائها لإنقاذها من وضع تورط الجميع بصناعته. ويمكن أن تقدم القوات ذات الصبغة القومية والمذهبية الأخرى ظهيراً. ومن المهم معرفة ان الأتراك هذه المرة، لا يتوانون عن تفجير حرب كبيرة في مدينة يراد أن يكون مصيرها مصير حلب الشرقية.

ان الاردوغانية التي اعتمدت على شرعية الصراع مع إيران وروسيا والاكراد في سوريا، يجب ألا تعطى الذريعة ذاتها في الموصل، ويفترض ان لا يعول أحد على الضغوط الدولية، خصوصا وان هناك قوى عالمية تريد توريط الاتراك في معركة على حساب العراقيين والسوريين، مستفيدة من اندفاعة اردوغان وعدم تفكيره بالمحرمات والمباحات في الشرعة العالمية. بالطبع سيقول بعض العراقيين من الشيعة "ليتورط الاتراك، هذا هو المطلوب" متناسياً ان هذه الورطة تعتمد على منطق حروب النيابة التي ندفع فاتورتها نحن.

اننا هنا لا نتحدث عن الرقة أو الانبار وصلاح الدين، بل عن المدينة التي أعلنت عاصمة للخلافة، والتي هجر منها المسيحيون والشبك والكرد والسنة المعارضون، وسبيت فيها نساء الإيزيديين وقتل رجالهن. مدينة حيوية لأكثر من طرف، ونقطة ارتكاز صراع إقليمي ومحلي، ومنطقة أطماع جغرافية، وهي مركز يوصل عرب العراق وكرده وعرب سوريا وكردها. وحين أجهض مقترح تحويلها الى أكثر من محافظة، جاءت التصريحات التركية، وهي بالضرورة تصريحات مربَكة وغير حكيمة، تدل على حجم المخاوف الاردوغانية، لذلك ان تعزيز تلك المخاوف قد تدعو الرجل الذي لم يتوان عن ملاحقة أصغر موظف في مؤسسات دولته على خلفية الانقلاب الفاشل، الى تجاوز حدود محرمة ربما توهم بوجود ضوء أخضر لاستباحتها.&

وهكذا، بالمستجد التركي، تتبلور أكثر وأكثر ملامح مرحلة ما بعد داعش. أنقرة الأقل نفوذاً في العراق تبحث عن نفوذ كبير، لكن اطماعها في الموصل تتجاوز حدود النفوذ الى الحصول على الولاية التي يراها الاتراك جزءاً من اناضولهم، وتصريحاتهم قفزت على عقبة التدخل بالشؤون الداخلية، الى عنصرية تستدعي تاريخ المذابح العثمانية. وفي المقابل، مواجهة هذا الوضع لن يكون سوى بتحركات لا تسمح بزج أبناء العراق بنار اردوغان التي يستدرج لها لتصبح محرقة تلتهم المزيد من العراقيين وتلتهم طموحاته أيضا.

&