لا يحبّ الفرنسيّ جاك أتّالي المولود في الجزار عام 1943 أن يغيب عن أيّ مجال من المجالات المهمّة التي تتطلّب الحنكة والذّكاء، وبُعْدَ النظر، والثقافة الواسعة، والمعرفة الدقيقة بالماضي والحاضر، وربّما المستقبل. فهو سياسيّ بارع اختاره ميتران مستشارا له في الثمانينات من القرن الماضي ليكون الى جانبه في قصر "الإيليزيه" على مدى سنوات طويلة. وهو روائي غزير الإنتاج، وناقد مرموق، وكاتب سير لشخصيّات تاريخية كبيرة، وموسيقيّ متقن لفنّه.

واعتمادا على مواهبه المتعدّدة هذه، هو يرغب دائما في مفاجأة أحبائه في المجالات المذكورة بما ينفعهم،، ويفيدهم، ويمتعهم أيضا. وفي خريف عام2012، أصدر جاك أتّالي كتابا عن الفيلسوف الفرنسي الكبير دنيس ديدرو الذي كانت فرنسا قد احتفلت آنذاك بمرور ثلاثة قرون على ميلاده. عنوان الكتاب:”ديدرو أو السّعادة في أن نفكّر". ومقُارنا بينه وبين المعاصرين له، أي فولتير وروسو، يقول جاك أتّالي:”بالنسبة لي هو الأهم في حلقة فلاسفة الأنوار. فهو رجل ذكيّ بشكل هائل، إنتـقائيّ، مؤثّر، لا يكلّ ولا يملّ من العمل. وهو بحر من العلم أسّس إعتمادا على "الأنسيكلوبيديا "، قاعدة الثّورة السياسيّة، والفلسفيّة، والإقتصاديّة في أوروبا. بالإضافة إلى كلّ هذا، أجد نفسي مَفْتونا بطريقته في كتابة رسائل الحبّ.

وأنا أرى أنه ليس بآستطاعتنا أن نكتب اليوم رسائل حبّ من دون أن نستوحي منه الآفا من الإبتكارت التي يستخدمها بهدف ختم رسائله بطريقة عذبة، رقيقة، أنيقة، شبقيّة، ساخرة، وسامية، جاعلا من كلّ جملة عملا فنّيّا بديعا”.

وفي حين ترك كل من فولتير وروسو فرنسا في فترات من حياتهما، فضّل ديدرو البقاء في بلاده ليكون شاهدا على أحداث هامة وخطيرة سبقت الثورة الفرنسية. لذلك يمكن القول أنه فهم كلّ شيء بخصوص عالم كان كان على وشك أن يرحل، وعالم كان على وشك أن يولد. لقد كان رائيا، ورائدا، ومساجلا بارعا، وصارما. ومتحرّرا من الإلتزامات، كان ديدرو يرفض التّسويات، ويتحدّى كبار الشخصيّات في عصره.

وقد سُجن بسبب حرّيه في التّفكير. وبفضل "الأنسيكلوبيديا "، كان آخر رجل استوعب علوم عصره. فعل كلّ هذا مع المحافظة على "نبل قلبه”. ويرى جاك أتّالي أنّ أعمال ديدرو الفلسفيّة، والرّوائيّة، وغيرها، تعكس جيّدا أحداث القرن الثّامن عشر، وما تميّز به في العديد من المجلات السّياسيّة، والإقتصاديّة، والإجتماعيّة. فقد كانت فرنسا في ذلك الوقت بلدا غنيّا لكنه لم يكن قادرا على تنفيذ إصلاحات. لذا كانت مشلولة. وكان الوضع الماليّ كارثيّا.

أمّا على المستوى العالمي، فقد كانت الصّين قوّة ديمغرافيّة كبرى، وفيها كانت هناك إنتفاضات من أجل الحرية مثلما هو الحال اليوم في العالم العربي. وبفضل اكتشافات بوغنفيل وكوك، بدأ يتشكّل نوع من العولمة. وكان ديدرو يرى أن حقوق الإنسان مرتبطة بواجباته أيضا. ففي القديم، في العالم الذي يتحكّم فيه الدّين، مثلا، لم يكن للنّاس غير الواجبات. ثم أصبح الوضع معكوسا ولم يعد يؤخذ بعين الإعتبار غير الحقوق. والحقيقة أنه لا بدّ من احترام الحقوق والواجبات معا. وهذا ما أدركه ديدرو بحسب جاك أتّالي، لذا كان محرّكا للتّاريخ.

وهذا ما تدلّ عليه الرّسالة التي بعث بها إلى الملك لويس السّادس عشر، حيث كتب له يقول: ”إذا ما أنتم غير قادرين على الفصل في مصلحة الشّعب، فإنّ الشّعب سيستعمل نفس السكّين لكي يقطعكم إلى نصفين". وعن السّعادة في التفكير عند ديدرو، يقول جاك أتّالي:”هناك اليوم مفكّرون كبارفي أنحاء مختلفة من العالم. والفلسفة نشطة جدّا كما لم يحدث ذلك من قبل. فقط يجدر بنا ألاّ نستسلم لعبث التّسلية، وألاّ نُهْمل ضرورة التّفكير، مثلما هو الشّأن في العديد من الحالات. في حين أن التّفكير نشاط مجانيّ، ومنبع للذّة والمتعة. أن نفكّر يعني أن نتعلّم كيف تكون لنا حياة داخليّة. التّفكير هو السّعادة. وهو الشّكل الأقصى للتحرّر، والتّفتّح. وهو نشاط أساسي يميّزنا عن الحيوان. والتفكير هو أيضا نشاط سياسي، والحقّ والواجب في التّفكير هما من جملة الحقوق والواجبات بالنّسبة للإنسان".

&