&
&
في الأقوال، وفي النظريّات، يبدو راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة الإسلاميّة، وحمّة الهمامي، زعيم الجبهة الشعبية ذات الإتجاه اليساري، على طرفي نقيض، ومختلفين إختلافا حادّا. لكن في الواقع وفي الأفعال، هما حليفان. كل واحد منهما يمسك بيد الآخر ليقودا تونس إلى الإفلاس، والخراب، والفوضى. والتحالف بينهما بدأ قبل إنهيار نظام زين العابدين بن علي. ففي نهايات عام 2005، وبمناسبة إنعقاد القمة العالمية للمعلومات في العاصمة التونسية، قامت عناصر من النهضويين، واليساريين بإضراب جوع إحتجاجا على سياسة النظام المذكور. وقد أطنبت وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية في الحديث عن ذلك الإضراب، مُبدية مساندة مطلقة له. ومنذ ذلك الحين، بدأ الإسلاميون واليساريون ينظمون تظاهرات مشتركة في الداخل والخارج للتنديد بسياسة نظام بن علي. وبعد إنهيار هذا النظام، أصبح التحالف المذكور أكثر وضوحا وجلاء. فقد كان التيار الإسلامي والتيار اليساري أول من فرضا العفو التشريعي العام الذي أطلق بموجبه سراحمتطرفين ومتشددين أصوليين سيكونون في ما بعد ضالعين في العمليات الإرهابية التي شهدتها تونس على مدى الخمسة أعوام الماضية. وقد باركت النهضة الإعتصامات التي دعا إليها حمة الهمامي، زعيم حزب العمال الشيوعي، بهدف إقتلاع ما سماه ب"جذور دولة الإستبداد والفساد". وعلى مدى شهرين، ظلت جموع غفيرة من الشبان القادمين في جلهم من المناطق الداخلية، وتحديدا من تلك التي اشتعلت فيها شرارة الإنتفاضة الشعبية في أواخر عام 2010، تحاصر قصر الحكومة بالقصبة، رافعة مطالب مشطة، ومستخفّة بالقوانين ، وبهيبة الدولة. وقد استغلت النهضة تلك الإعتصامات التي شلت المؤسسات العامة والخاصة، وعطلت الحركة الإقتصادية لبسط نفوذها في جميع أنحاء البلاد، ونشر الفوضى التي تحتاجها لكسب أنصار جدد. وعندما صعدت النهضة إلى السلطة، اكتفى حمة الهمامي بانتقاد سياسته الكارثية بطرف لسانه، مُحْجما عن إدانتها بشدة كما فعل رفيقه في الجبهة الشعبية، شكري بلعيد الذي أغتيل من قبل مجهولين في السادس من شهر فبراير(شباط) 2013. وإثر إنتخابات 2014، التي مكنت حزب نداء تونس بزعامة الباجي قايد السبسي، تجدّد التحالف بين النهضة والجبهة الشعبية بطرق خفيّة حينا، ومعلنة أحيانا أخرى، خصوصا عندما يتعلق بالنيل من هيبة الدولة. فقد ثبت تورط التيارين في العديد من الإحتجاجات وأعمال التخريب والفوضى التي عرفتها البلاد خلال السنتين الماضيتين، خصوصا تلك التي عرفتها منطقة القصرين، ومنطقة الحوض المنجمي، والعديد من المناطق الجنوبية القريبة مع الحدود مع ليبيا. بل أن الحركتين كانتا وراء إثارة النعرات العشائرية والقبلية في المناطق المذكورة. وقد شاركهما في ذلك الرئيس المؤقت السايق محمد المنصف المرزوقي. وفي مطلع الخريف الحالي، أثبتت الأبحاث تورط عناصر يسارية وسلفية في أعمال الشغب التي عطلت أشغال شركة بيتروفاك البريطانية حتى أن هذا الأخيرة هددت بمغادرة البلاد نهائيّا. وفي قفصة، دعا الغنوشي أهالي الحوض المنجمي إلى المطالبة بحقهم في أن يتمتعوا بنسبة عشرين في المائة من مداخيل الفسفاط! فكان ذلك يمثابة تحريضهم على التمرد على السلطة المركزية. وهو ما سعى كل من المنصف المرزوقي، وحمة الهمامي إلى القيام به في طاطاوين حيث توجد آبار البترول. ومؤخرا، كانت حركة النهضة، وحركة الوحدة الشعبية وراء تحريض سكان قبلي بأقصى الجنوب التونسي على الإستيلاء على واحات للتمور الرفيعة تابعة لأملاك الدولة! وقد نددت جل الأحزاب، والمنظمات المدنية بهذه العملية الخطيبرة وغير المسبوقة، والتي قد تفتح الطريق لفوضى عارمة تأتي على مات تيقى من هيبة الدلة إتيان العاصفة الهوجاء على أكوأخ من القش. ومعلقا على عمليّات وأحداث أخرى نالت من هيبة الدولة، ومؤسساتها، قال المحامي سمير ديلو، القائد البارز في حركة النهضة، بإنه يتعين على الدولة أن تنتهج ما سمّاه ب"الديلوماسية الشعبية"، وأن تتجنب تطبيق القوانين التي يمكن أن "تخيف الشعب". وقد نسى الأستاذ سمير ديلو الذي يمارس مهنة المحاماة منذ أزيد من عشرين عاما، أن القوانين وجدت فعلا لتخويف الشعب، وردع همجيّته، وفرض الأمن والأمان، والضرب على أيدي كلّ من يسعون إلى الحط من هيبة الدولة. وأظن أن النهضويين واليساريين يشتركون في هذه الشعبوية التي باتت خطرا على تونس وعلى شعبها. وتتغذى هذه الشعبوية من المراجع التي يستندون إليها. فمراجع الغنوشي جميعها دينية أصولية، تكاد تكون منقطعة عن الهموم والمشاكل الدنيوية. ونحن نلمس ذلك في كل كتاباته التي لا نعثر فيها على ما يمت بصلة للإقتصاد والسياسة والثقافة. وأما حمة الهمامي الذي أمضى ما يسميه ب"سنوات النضال"، متخفيا وراء الأبواب المغلقة، من دون أن يكلف نفسه العمل على كسب قوته بعرق جبينه، فلم يقرأ ماركس جيّدا، بل اكتفى بقضم المنشورات الهزيلة التي كانت تنشرها تنظيمات متطرفة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. ورغم أن مدبجي تلك المنشورات إنقرضوا الآن ولم يعد لهم وجود يذكر، فإن حمة الهمامي ما يزال متشبثا بهم، وبأطروحاتهم. وهذا ما يفسر عماه، وبؤسه السياسي والفكري. وشخصيا أنصح كلّا من راشد الغنوشي وحمة الهمامي إن كانا معنيين حقا بحال تونس ، وشعبها في هذه الظروف العصيبة، أن يقرآ بتمعن الفصول المتعقة بالدلولة في "مقدمة" ابن خلدون. فلعلّ ذلك يعيد لهما الرشد، ويضيء لهما واقعا هما يعتقدان أنهما يعرفانه جيدا، في حين أن أفعالهما وأقوالهما يدلان على انهما جاهلان به، وبخفاياه وتضاريسه. ويرى ابن خلدون أنه ل بد من وجود سلطة تحول دون إعتداء الناس بعضهم على البعض الآخر. وهو يسمي ذلك"وازع الحكم"، أي السلطة الراعية، والتي تمتلك القوة الرادعة في منع الناس من قتل أو إيذاء البعض حيث أن العداوة والعنف سائدان في طبيعتهم الحيوانية. وهذه السلطة لا تكون إلى في يد من يكون على رأس السلطة. وقبل الفيلسوف البريطاني جون لوك الذي لا يزال مرجعا أساسيا بالنسبة للدول الديمقراطية في الغرب، أشار ابن خلدون إلى أن أسباب خراب الدولة، وإنهيارها يعود إلى ضعف مؤسساتها، وإلى غياب السلطة الرادعة، وإلى الأحكام التي تصدر عن أشخاص ، كل واحد منهم يعتقد أن يملك الحقيقية(وهذا هو حال الغنوشي والهمامي)، وإلى العمل على الحط من هيبة الدولة، وإلى إدعاء هذا أو ذاك بأنهم جاء ليصلح أوضاع الناس بأمر إلهيّ( وهذا هو حال اتلغنوشي)، وإلى منح الشعب الحرية المطلقة في أن يفعل ما يشاء وما يريد! وأنا أظنّ أنه لو تحلّى كل من الأصولي راشد الغنوشي والشيوعي المتطرف حمة الهمامي بالصبر، وتمعنا في المعاني العميقة لكلام ابن خلدون، لاتضحت لهما الرؤيا، ولكفّا عن إيذاء البلاد والعباد.