&
&
تعرضت منطقة الشرق الأوسط مع نهاية عام 2010 إلى، ما سماه الغرب بالربيع العربي، والتي تبين في الحقيقة بأنه إنتفاضة غضب عولمية، بعد أن زاد تباين الثراء بشكل فاحش، في جميع إنحاء العالم، بعد الإزمة المالية العالمية للبنوك في عام 2008، حيث يملك 0.7 من سكان العالم ما يزيد عن 40% من ثرائه، بينما يملك حوالي 70% من شعوب العالم فقط 3% من ثرائه. والجدير بالذكر بأن ظاهرة تباين الثراء هذه أكثر شدة في المجتمعات الغربية الديمقراطية، والتي بدأ يبرز نتيجة غضبها الشعبي العولمي مرة أخرى في إنتخابات عام 2016، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث سيطر على الانتخابات التمهيدية للحزبين الديمقراطي والجمهوري شخصيتين أصلا مستقلتين، وهما اليساري المستقل السناتور برني ساندرز، وملياردير العقارات في نيويورك دونالد ترامب. وبالرغم من نجاح سيدة المؤسسة الأمريكية، هليري كلنتون، في تمثيل حزبها لانتخابات الرئاسة الأمريكية، ولكنها أمام منافسة شديدة من مياردير العقارات المستقل، الذي ليس له علاقة سابقا، لا بالمؤسسة السياسية الأمريكية، ولا بالحزب الجمهوري. فقد فقد الشعب الأمريكي ثقته برجال السياسة التقليديين، ومن الكونجرس والحكومة وحتى القضاء، بعد أن لعب رأس المال دورا كبير في شراء اللعبة السياسية، بعد تقلص الثراء الأمريكي في يد قلة في القمة، بينما يعاني بقية المستهلكين من انخفاض الرواتب نسبيا، مع زيادة الأسعار، من السكن والغذاء والدواء، وحتى التعليم، حيث يضطر الطالب أن يدفع ديون تعليمه الجامعي المتراكمة حتى شيخوخته. في الوقت الذي ترتفع أرباح شركات العولمة العملاقة، لتكدس الأموال في حساباتها الخاصة، حتى وصل لحد أن يملك القطاع الخاص نقد، يزيد عن نصف الناتج المحلي الإجمالي للدولة.&
وتبقى الأسئلة التالية لعزيزي القارئ: بعد أن عانت شعوب العالم من تبعات شجع قيادات الوول ستريت، مع إنتفاضة العولمة لعام 2008، هل سيواجه العالم أزمة إنتفاضة عولمة جديدة تتعلق بممارسات قطاع العلاج الطبي الدوائي والجراحي؟ فهل إنتشر وباء جشع الربحية من القطاع المالي، إلى القطاع الصحي العلاجي، الدوائي والجراحي؟ وهل هناك تلاعب في تسعير الأدوية، لترتفع أسعارها بشكل جنوني، بحيث لا تستطيع ميزانية المواطن، بل وموازنة الدولة تحمله؟ وهل بدأت المستشفيات وصف أدوية غير مجربة، ولا حاجة للمريض إليها، بل تكون أحيانا مضرة، لزيادة أرباح شركات الأدوية؟ وهل تستفيد شركات الأدوية من شراء رجال البرلمان والحكومة والقضاء، لكي تضمن إستهلاك أدويتها، وبسعر مرتفع فاحش؟ وهل امتد طاعون هذا الجشع للمنتجات والعمليات الجراحية؟ فهل بدأ الجراحون أجراء عمليات لا يحتاج لها المريض، لترتفع استهلاك المنتجات الجراحية، لتكسب شركات الصناعية الجراحية أرباح هائلة، ولترشي القطاع الطبي بقلة من أرباحها؟ وهل ممكن أن نتصور بأن طبيب القرن التاسع عشر حقن نفسه بجراثيم الأمراض، ليكتشف علاجات جديدة لمرضاه، بينما يضطر طبيب القرن الحادي والعشرين العمل ليلا ونهارا لزيادة ربحية الشركات الدوائية والجراحية والمستشفات الخاصه، لكي يحافظ على وظيفته، ولكي يغذي ويدرس أطفاله؟ وماذا عن الأخطاء العلاجية، الدوائية والجراحية، في المستشفيات، هل أصبحت أحد أهم أسباب الوفيات اليوم؟ وهل ستنتهي هذه اللعبة اللاإنسانية، لتتحول مثل غضب إنتفاضة عولمة الأزمة المالية لعام 2008 المالية والتي عرفت بالربيع العربي العولمي، إلى أزمة غضب ربيع عولمي دوائي جراحي؟
للإجابة على هذه الأسئلة، سنراجع معا عزيزي القارئ، عدة مقالات غربية برزت في الإعلام الياباني في شهر سبتمبر الماضي. فلقد كتبت جاكلين ليو، بصحيفة الفيزكال تايمز، بعددها الصادر في 24 سبتمبر الماضي، مقالا بعنوان، كيف سنحارب شركات الأدوية العملاقة حينما تتجاوز الحدود؟ تقول فيه: "حينما برزت في حركة السيطرة على الوول ستريت، كصوت 99% من الأمريكيين، الذين عانوا من الكساد العظيم، لتبين هذه الانتفاضة تلاعب البنوك العملاقة، وشركات الخدمات المالية، التي كانت مسئولة عن الأزمة الأسكانية، والتي كلفت الملايين من الأمريكيين مساكنهم وأعمالهم ومدخراتهم، بعد أن تلاعبت بعض البنوك بالديون الاسكانية، وباعتها على باقي البنوك في جميع أنحاء العالم. وبعبارة مختصرة، فأنهم دفعوا بسم الثعبان، الذي أدى أخيرا للتنظيم الفيدرالي للقطاع المالي والمصرفي، في الوقت الذي بين بدقة الليزر، تباين الثراء والجشع. بينما اليوم، لو استثنينا بنك "ولز فارجو"، فقد عزلت البنوك من الصفحة الأولى من الجرائد، لتبرز بدلها قطاع تجاري آخر، وهو قطاع الصناعات الدوائية. وليس فقط بأن شركات الأدوية دفعت بلوبياتها في الكونجرس، لتقاوم تنظيم بيع الأدوية الأفيونية، المسببة لإنتشار وباء الأدمان، كالاوكسي كونتن، وفيكودين، وفنتانيل، بل أيضا بعض الأدوية المتخصصة، والتي تعالج الأمراض المزمنة، كالتهاب المفاصل والحساسية، والتي تجاوزت اسعارها دخل العائلات الشهري. فلقد أرتفعت أسعار بعض الأدوية القديمة التي كانت في السوق لسنوات طويلة، أي ليست أدوية جديدة يفرض عليها حقوق الملكية الفكرية، بين 1000% وحتى 5000%. فمثلا دواء لعلاج الحساسية، أرتفع سعر الكبسولة الواحدة منه اليوم إلى 750 دولار، أو ابرة حقنة دوائية خاصة بصدمة الحساسية القاتلة، التي أرتفع سعر العلبة الواحد منها، من مائة دولار قبل سنة، إلى ستمائة وخمسة دولارات اليوم، في الوقت الذي هناك خمسة عشر مليون أمريكي مصابون بحساسية مرض الأكيزما، وهي حساسية في الجلد مزمنة، تزداد سوءا في الجو الناشف، لتزداد أعراض الحكة ويزداد خرش الجلد وإلتهابه. كما أن هناك إلتهاب جلد مزمن آخر، وهو حب الشباب، والذي يصيب 80% من الشباب بين عمر الحادي عشر وحتى الثلاثين، ارتفعت أسعار علاجه بشكل فاضح.&
فمع النقص المفتعل لهذه الادوية في السوق، إرتفعت الأسعار، ولكن حينما توفرت، لم ينخفض سعرها لما كانت عليه سابقا، بل إرتفعت بعض أسعار هذه الأدوية بشكل فاحش. فمثلا شركة أدوية رفعت أسعار كريم لعلاج الحساسية وحب الشباب، إلى عشرة آلاف دولار، لأنبوبة بها ستون جرام، أي بنسبة 1100% من سعره الأصلي، الذي هو مرتفع جدا أصلا، والذي كان من قبل بسعر مائتين وواحد وأربعين دولار. لا، وبالإضافة بأن الأبحاث الطبية لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية، تبين بأن هذا الدواء غير مؤثر، ومع حسن الحظ هناك أدوية بديلة ورخيصة. ويبقى السؤال: كيف سيحارب المستهلك، وخبراء الطب، والحكومة الفدرالية، هذه الحرب المسعورة في إرتفاع أسعار الأدوية؟ &فمثل أية معركة أخرى، يجب ان تعرف نواحي قوتك، وكيف ستستخدمها، كما عليك معرفة موقع عدوك، ونقاط ضعفه وقوته. وقد بينت دراسة سابقة الأسباب الحقيقية للإرتفاع الفاحش للأسعار، وهي: أولا، ليس هناك تنظم لأسعار الأدوية من مؤسسة الرعاية الطبية الفيدرالية الأمريكية، المدي كير والمدي كيد، بعكس الدول الأخرى كاليابان، حيث أن الدولة تحدد الأسعار بعد الحوار مع الشركات. وثانيا، تتقدم شركات الأدوية بطلب المحافظة على مدة حقوق ملكية الدواء الجديد، خلال فترة التجربة السريرية للدواء، ليعطي ذلك شركة الأدوية أثنى عشر سنة إضافية، لاحتكار إنتاج الدواء، ورفع سعره كما تشاء. وثالثا، هناك إنخفاض المنافسة في سوق الأدوية القديمة المصنعة، الجنريك، التي أنتهى مدة حقوق الملكية لها، لتستطيع الشركات الدوائية الأخرى تصنيعها، والتنافس في خفض أسعارها، لأن هذه الشركات لم تصرف مبالغ باهضة في إختراع ذلك الدواء، وذلك بسبب أن هذه الشركات لا تربح الكفاية بسبب إنخفاض الربحية في تسويقها، وذلك بسبب المنافسة الشديدة في السوق. ورابعا، هناك أرتفاع كلفة تطوير الدواء وإنتاجه، حيث يحتاج أنتاج دواء جديد لعقد من الزمن، وبكلفة تزيد عن مليار ونصف دولار للدواء الواحد. وخامسا، هناك محدودية في سوق إنتاج الأدوية، ذات كلفة الإنتاج العالية، ومع قلة الأدوية القديمة، الجنريك، بسبب قلة إنتهاء مدة حقوق الملكية، لتلاعب الشركات في رفع سنوات حقوق الملكية." ويستاءل الكاتب: ما هو الحل؟ فهل تحتاج الدولة أن تنظم تحديد سعر الأدوية؟ أم نحتاج لتطوير قوانين إدارة الغذاء والدواء الفيدرالية الأمريكية للتخلص من قوانين القرن التاسع عشر البيروقراطية القاتلة لانتاج أدوية جديدة؟ وهل يجب ان تتوقف المستشفيات من صرف أدوية عالية القيمة، والتي تكلف المستشفى الواحد ثلاث مليار دولار سنويا؟ وهل يجب منع الأطباء من قبول سفرات شركات الأدوية، بسبب أن الأبحاث تبين، بأنها تترافق مع زيادة وصف الأطباء أدوية غالية الثمن، والغير ضرورية؟ وهل يجب على شركات التأمين التحاور مع شركات الأدوية، لتحديد أسعار معقولة لادويتها؟ وهل من واجب المرضى أيضا الدراسة والبحث عن ادوية مفيدة، ومجربة، ومنخفضة السعر؟
ولننتقل عزيزي القارئ من تحديات رأسمالية العولمة للعلاج الدوائي إلى العلاج الجراحي، فقد كتبت جينا كولاتا، في صحيفة النيويورك تايمز الدولية، الصادرة في طوكيو بالتعاون مع صحيفة اليابان تايمز، مقالا في الخامس من شهر اغسطس الماضي، وبعنوان، لماذا العمليات الجراحية الغير مفيدة لها شعبية في الولايات المتحدة؟ فكتبت تقول: "الأبحاث الطبية تشكك في فائدة الكثير من العمليات التي تجرى يوميا. فقد كان سابقا يحتاج تسويق الدواء تجارب كثيرة للأثبات بأنه مؤثر علاجيا وغير ضار، ولكن المعضلة هي أن إدارة الغذاء والدواء الأمريكية لا تتدخل ولا تنظم العمليات الجراحية، لذلك ما الذي يحدث حينما تثبت التجارب السريرية بأن عملية جراحية ما غير مفيدة أو ضارة؟ فمن المنطق والمتوقع بأنه حينما تكون عملية ما غير مفيدة أو قد تكون مضرة، سيتم التوقف عن إجرائها، والبحث عن سبل أخرى للعلاج. كما قد يتساءل المريض: ما الذي يؤكد بأن تلك الجراحة أفضل من العلاجات الأخرى في مرض ما؟ فلنراجع مثلا عمليات جراحة الآم الظهر الشائعة جدا، فعملية دمج فقرتين بسبب تلف الغضروف بينهما، لتخفيف الآم الظهر، قد درست في أربعة أبحاث علمية مقارنة، وكانت النتيجة الأكيدة بأن هذه العملية لم تكن أفضل من العلاج الطبيعي ومخففات الالم، حيث في المجموعتين يخف الألم او يختفي." وقد علق بروفيسور رشارد ديو على ذلك فقال: "لقد تـمت هذه الأبحاث العلمية الأربعة المقارنة في عام 2000، وقد مر وقت طويل، لكي تحدد أو توقف استخدام هذه الجراحة لعلاج الآم الظهر، ولكن لم يحدث ذلك، بل بالعكس زادت نسبة استخدام هذه العمليات الجراحية." &والحقيقة بأنه استمرت زيادة عمليات جراحة الظهر في الولايات المتحدة حتى عام 2012، حينما قررت أحد شركات التأمين الصحية الأمريكية نورث كارولينا، بعدم تغطية التأمين لعملية جراحة الظهر هذه، ولتتبعها شركات أخرى. ويعلق البرفيسور على ذلك فيقول: "يبدو بأن خسارة الربحية لشركات التأمين كانت أقوى من الأبحاث الطبية العلمية للعمل على خفض استخدام هذه العمليات الغير مفيدة، بل والمضرة."&
كما نشرت في عام 2009 المجلة الطبية الأمريكية المشهورة، نيو إنجلاند جورنال، نتائج أبحاث عن عملية أخرى لألام الظهر، وأثبتت أيضا عن عدم فعاليتها الإضافية، وقد علق مخترع هذه العملية نفسه، البروفيسور ديفيد كالميس، من جامعة مايو كلنك، فقال: "اتصور بأن الجراحيين إستمروا في إجراء هذه العملية لأن شركات التأمين تدفع كلفتها، ولأن الأطباء يتذكرون مرضاهم في وضع أفضل بعد العملية." ولو دققنا في نتائج هذه الأبحاث الطبية العلمية لوجدنا بأن هناك شفاء نفسي وهمي، والذي يسمى في الطب (بلاسيبو)، وليس فقط من قبل المريض بل أيضا من قبل الطبيب، وأعني بأن إحساس المريض بأنه أحسن حالا من الألم بعد العملية، هو نفس الإحساس الذي يحس مريض المستشفى حينما يشكو من ألم بعد عملية ما، وتقوم الممرضة بإعطاءه حقنة من ماء الملح، وهو يعتقد بأنها أبرة مورفين مسكنة للألم، فيخف الألم فعلا. وقد يكون أحسن مثل لكل ذلك هو العمليات التي تجرى على تمزق غضاريف الركبة. فقد يصاب مفصل الركبة بإلتهاب مزمن يؤدي لتلف جزء من غضروف الركبة أو تمزقه، ويترافق ذلك بألم مزمن متكرر. وهناك حوالي أربعمائة ألف أمريكي، متوسطي العمر، إجريت لهم عملية غضاريف الركبة لتخفيف ألم إلتهاب الركبة المزمن، وقد بينت أبحاث الطبية مؤخرا بأنه ليس هناك أي علاقة بين ألم الركبة والتمزق الغضروفي. وقد أكدت عدة أبحاث علمية إجريت على المرضى المتوسطي العمر، حيث وجدت بأن هناك عدد كبير من المرضى تبين الدراسات المقطعية للركبة بوجود تمزق غضروفي لديهم، مع أنهم لم يشكوا أبدا من أي ألم في مفصل الركبة. وقد علق البروفيسور جفري كاتز، أستاذ جراحة العظام بجامعة هافارد بأنه: "هناك ثلاثة مشاكل في عملية الركبة للتمزق الغضروفي، اولا هو أن بعض المرضى لا يتحسنون بعد هذه العملية، وثانيا الإختلاطات الهامة لهذه العملية، وثالثا بأن الألم سيتكرر بعد فترة معينة. ولذلك الكثير من الأطباء غير متأكدين هل الأفضل أجراء العملية او الإعتماد على العلاج الطبيعي والدوائي." وقد دفع ذلك البروفيسور جفري كاتز لدراسة نتائج هذه العمليات في جامعة هارفارد، ليعلق بأنه: "الجراحة لم تقدم إلا القليل لمن أجريت له من المرضى، وهذا القليل ما هو إلا أنخفاض درجة الإلم، ولكن هذه النتيجة يمكن أن تحققها حتى النتائج الوهمية للجراحة (بلاسيبو)، اي الغير ضرورية في أي مرض، كما أنه يحققها بشكل أفضل العلاج الطبيعي، وبدون الحاجة للعملية وإختلاطاتها الخطيرة." وقد اجريت خلال العام الماضي تسعة دراسات بحثية علمية مقارنة، لتؤكد بأنه ليس هناك فائدة إضافية لهذه العملية على العلاج الطبيعي. ولنا لقاء.
&
د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان