في يوم الأربعاء 27 يناير المنصرم، قدمت وزيرة العدل الفرنسية السابقة " كريستين توبيرا" استقالتها للرئيس الفرنسي بسبب اعتراضها على مشروع تعديلات دستورية كانت الحكومة تعتزم طرحه للتصويت عليه في البرلمان يقضي بتجريد المدانين في قضايا إرهابية من حاملي جنسيات مزدوجة من جنسيتهم الفرنسية، وذلك لقناعتها الشخصية ان مثل هذا الإجراء غير ذي جدوى.&
لم ينحصر الخلاف بين الوزيرة السابقة ورئيس الحكومة "مانويل فالس" على موضوع إسقاط الجنسية، بل تعداه الى رفضها تمديد قانون الطوارئ الساري المفعول في فرنسا منذ هجمات الثالث عشر من شهر نوفمبر من العام الماضي. وبمجرد اعلان الرئاسة الفرنسية قبول الاستقالة علقت الوزيرة السابقة على ذلك بتغريدة على حسابها الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" بالقول: "أن المقاومة تكون بالصمود احيانا وبالرحيل احيانا اخرى"، وركبت دراجتها وغادرت الوزارة.
بالمقارنة، في إحدى الدول العربية التي تم مؤخرا رفع الدعم عن سعر المحروقات فيها بنسبة عالية تجاوزت الـ 50%، يقال ان الوزير المختص تقدم بإقتراح يدعوا فيها حكومته الى ان يكون رفع الدعم على مرحلتين بينهما فترة زمنية في حدود ستة أشهر، وان يعطى المواطنون فترة زمنية لا تقل عن شهر واحد قبل التطبيق الفعلي للقرار لتهيأتهم نفسيا ومعنويا ليتقبلوا مثل هذا القرار، وان ينظموا أمورهم المالية على ضوءه. لم يؤخذ بإقتراحه وتم رفع الدعم في حينه، ولم يسمع احد عن إعتراضه او عزمه على الاستقالة. في عالمنا العربي لا يستقيل الوزير او المسؤول، بل يتم إقالته.&
الوزير في الدول الديمقراطية الحقيقية ليس مسؤولا فقط عن رسم سياسة وزارته وإن كانت من اولويات مسؤولياته، بل يساهم بشكل عام في رسم سياسة الدولة ككل، وله حق الاعتراض على القرارات التي تتخذها الحكومة اذا تعارضت مع افكاره او مبادئه او قناعاته الشخصية، ويستقيل بإرادته الحرة. أما في الدول العربية، فالسلطة المطلقة في يد الرئيس او الملك او الأمير، أما الوزراء فهم في الحقيقة موظفون كبار (أو تنفيذيون) كما وصفهم احد الوزراء في الدول العربية. & &
ولنعرج الآن على النواب، ونبدأ بنوابهم. لا زلت اتذكر الوثائق التي نشرتها صحيفة "ديلي تلغراف البريطانية" في شهر يوليو من عام 2009م حول إساءة المئات من اعضاء البرلمان البريطاني الى نظام النفقات، حيث طالبوا بالحصول على الآف الجنيهات من دون وجه حق. الرأي العام البريطاني اتخذ موقفا موحدا من الأعضاء المتورطين وقرر معاقبتهم، وكانت الحصيلة استقالة او إقالة أكثر من وزير، وتجميد عضوية الكثير من الأعضاء في الحزبين الرئيسيين "العمال والمحافظين"، وإرغام الكثير من الأعضاء المتورطين على اعادة المبالغ غير القانونية التي حصلوا عليها والاعتذار الى الشعب. كما قام الحزبان بتشكيل لجنة تدقيق في كل منهما للنظر في موضوع خرق القوانين، وكل عضو ثبت انه اساء التصرف لم يسمح له بالترشح للانتخابات التي كانت على الأبواب وقتها. هذه عينة من دولة واحدة "أم الديمقراطيات" كما يطلق عليها.
اما سلوك وتصرفات نوابنا في العالم العربي، إليكم بعض الأمثلة. في العراق، كشف مؤخرا عضو البرلمان المثير للجدل "مشعان الجبوري" في مقابلة تلفزيونية حجم فساد الطبقة السياسية العراقية، حيث قال بصراحة: "إن جميع السياسيين العراقيين (لابس العقال ولابس العمامة ولابس البذلة الأفندي) وأنا – يشير الى نفسه – تلقينا الرشاوي وشاركنا في العديد من عمليات الفساد، وان هذه الممارسات التي تضر بمصالح الوطن والمواطنين لم تعد في عرف السياسيين العراقيين عيبا او جرما، بل إن البعض يتفاخر بارتكابها وممارستها امام افراد اسرته واصدقاءه".&
اعتقد ان العراقيون الذين استمعوا او قرأوا اقوال هذا النائب أصيبوا باليأس من اي اصلاح سياسي في العراق، طالما من مثل شاكلته (وهم الأغلبية) هم من يشغلون مقاعد برلمان بلدهم الذي من المفترض ان يشرع القوانين لإصلاح المسار السياسي في العراق ويراقب اداء الأجهزة التنفيذية.&
وفي البحرين، تخلى النواب وهم بكامل قواهم العقلية والنفسية عن أدوات الرقابة والمساءلة التي كفلها لهم الدستور والتي بموجبها يحق لهم التشريع والمراقبة والمحاسبة بما فيها إستجواب الوزراء، واكتفوا بصلاحيات محدودة تسمح لهم بتقديم الاقتراحات برغبة. بينما ركزوا جل جهدهم على تحسين المزايا المادية والمعنوية التي تخصهم كنظام التقاعد وجوازات السفر الخاصة لهم ولعوائلهم حتى بعد إنتهاء صفتهم كنواب. &&
الفساد الإداري المرتبط بإساءة الوظيفة العامة هو: "سلوك يحيد عن المهام الرسمية لوظيفة عامة بهدف الحصول على منافع خاصة. او انه الأداء السيئ المقصود، او تجاهل واجب محدد معروف، او الممارسة غير المسموح بها للسلطة وذلك بدافع الحصول على مصلحة شخصية مباشرة بشكل او آخر". وهكذا يتبين ان هذا الإتجاه يوضح ان السلوك المنطوي على الفساد ليس بالضرورة مخالفا لنصوص القانون، وانما يعني استغلال الموظف العام سلطته ونفوذه لتحقيق مكاسب خاصة، وذلك من خلال تعطيل نصوص القانون، او من طريق زيادة التعقيدات البيروقراطية في تنفيذ الإجراءات، او إنتهاك القواعد الرسمية. هذا ما نعاني منه في الوطن العربي.&
& &
&