من المعروف بأن المال مادة أساسية في التأثير على نتائج الإنتخابات الديمقراطية، فقد إرتفعت كلفة الإنتخابات الرئاسية الأمريكية لأكثر من مليار دولار، وتنتهي معظم هذه الأموال في جيوب شركات الإعلام، وخاصة القنوات التلفزيونية، والتي قد يصل سعر بعضها لمدة الدقيقة الواحدة أكثر من المليون دولار. وعادة تغطي معظم كلفة هذه الإنتخابات الشخصيات الثرية جدا، أو الشركات العالمية العملاقة، وبالأخص المؤسسات المالية في الوول ستريت بمدينة نيويورك. ويبدو بأن هناك تغيرات بارزة في إنتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2016، حيث أكد بعض المرشحين الإعتماد على أموالهم الخاصة، كالملياردير، دونالد ترامب، المستقل وهو مرشح الحزب الجمهوري، بينما أكد برني ساندرز، وهو مستقل أصلا، وأحد مرشحي الحزب الديمقراطي، إعتماده على تبرعات المواطن العادي، بينما رفض أي دعم من المؤسسات المالية في الوول ستريت، او الشركات العالمية العملاقة. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ستلعب تكنولوجية التواصل الإجتماعي دورا مهما في دعم ثورة إنتخابية جديدة في الولايات المتحدة؟ وما تأثير كل ذلك على نظام المؤسساتية الأمريكي؟
&
&لقد صدم برني سندرز الشعب الأمريكي بصعوده السريع في إنتخابات الرئاسة الأمريكية التمهيدية لعام 2016، حيث إستطاع أن يتقدم على السيدة هليري كلنتون، والملياردير دونالد ترامب بنسبة كبيرة، في ولاية نيو هامشير، كما جابهه بقوة غريمته السيدة هليري كلنتون في الإنتخابات التمهيدية بولاية أيوا. فقد إندهش الكثيرون عن صعود شخصيتين خارج مؤسسة الحكم الأمريكي، وهما برني ساندرز ودونالد ترامب، اللذان يريدان أن يثورا على المؤساستية التقليدية الأمريكية، وخاصة برني ساندرز الذي يدعو لتغير النظام الأمريكي من رأسمالية سوق حرة منفلتة، إلى رأسمالية ذات مسئولية إجتماعية، والذي يعلن عن نفسه بأنه اشتراكي، مع رفضه الشديد لسيطرة المؤسسات المالية بالوول ستريت، مع التفاوت الاجتماعي الأمريكي المتزايد. كما يريد زيادة الحد الأدنى للأجور إلى 15 دولارًا في الساعة (7,25 دولارات حاليًا على المستوى الفدرالي)، وينادي بتأمين طبي شامل على غرار النموذج الأوروبي، ويطالب بحكومة "تعمل من اجل الجميع ولا تقتصر جهودها على حفنة من الناس في القمة". كما يعتبر التغيّر المناخي تهديدًا بالغ الخطورة، ويعد بمجانية التعليم الجامعي في بلد يبلغ فيه متوسط ديون الطالب 35 الف دولار. وعندما تنتقد كلينتون تدني مستوى معرفته بالسياسة الخارجية، يرد بأن اهم عملية تصويت في التاريخ الأميركي الحديث، كان التصويت على الحرب في العراق، التي أيدتها كلينتون وعارضها هو. وعندما يتهم بالتطرف، يطرح النموذج الاسكندينافي، ويضيف "أعتقد أني لا أطرح فكرة متطرفة إذا ما قلت إن من يعمل 40 ساعة في الأسبوع ينبغي ألا يعيش فقيرًا".كما لا يتردد في القول أنه سيعمد إلى زيادة الضرائب.&
&
ويبقى السؤال: هل يمكن أن يربح برني ساندرز الإنتخابات؟ لقد جاوب صحفي هوف بوست الأمريكية هذا السؤال بقوله: &أعتقد بأن هناك أسباب معقولة ترفع من ثقل مؤيدي ساندرز في المعادلة. فأولا، هناك طاقة جديدة تدفع بالناخبين للركض نحو صندوق الإنتخابات. ثانيا، هو أنه كلما تعرف الناخبين على ساندرز، كلما زاد أحترامهم، ودعمهم له. ثالثا، هي المعضلة الإيديولوجية والمتعلقة بأنه هناك 50% من الناخبين كرروا بأنهم لن ينتخبوا مرشحا إشتراكيا، ولكن الكثير من هؤلاء لم يفكروا في هذه الكلمة منذ سبعينيات القرن الماضي، ولكن قد تكون بيئة الأمور قد تغيرت اليوم، فهناك الكثيرون من بدأ يحب هذه الكلمة، وخاصة بعد زيارتهم لدول أوروبا الغربية. ورابعا، الديموغرافية، فسؤال العرق لم ينتهي حول ساندرز حتى الآن، فمعظم الذين صوتوا لساندرز في أيوا، ونيو هامشاير هم من البيض، بينما بدأ يلفت نظر الناخبين في المناطق الأخرى، فمثلا في ولاية سوث كارولينا، بدأ يزداد عدد المؤيدين له من السود أكثر من البيض. ومن الواضح بأن خطة ساندز المتعلقة بالقضاء الجنائي، والتعليم، والبنية التحتية، والرعاية الصحية، مهمة للناخبين السود، بل وحتى الأمريكيين من أصول لاتينية... كما يبدو بأن الجمهوريين تطرفوا كثيرا نحو اليمين، مما أعطى فرصة للأفكار الإشتراكية. &وأخيرا، يبدو بأننا في سنة غريبة، ولنتذكر بأن الأحداث التي دفعتنا للتساؤل عن مدى إستمرارية ساندرز في هذه الإنتخابات هي مفاجأة كبيرة بنفسها، فلم نتوقع بأن المال الشعبي الذكي سيلعب دورا بهذه الأهمية، لذلك قد نحتاج لشيء من التواضع والإنفتاح للقبول بمفاجئات ديمقراطية أخرى! & &&
&
كما كتبت جوليا كرافن تقول: نتائج الإنتخابات التمهيدية لولاية أيوا ربما تكون حشرجة الموت للمؤسسة الأمريكية، وقد نتساءل: ما هي أولويات المؤسسة الأمريكية التي تحرك الإدارتين الجمهورية والديمقراطية؟ فالأولى، سياسة خارجية عنيفة عدوانية، "الإستثنائية"، أي وجهة النظر بأن الولايات المتحدة لها الحق أن تفرض رأيها لأنها تعرف الأكثر، وترى الأبعد، وتعيش في مستوى أخلاقي أسمى عن الأمم الأخرى، ولم يكن ذلك إبتدال بل تنظيم الحياة اليومية والسياسة العالمية. وكانت الثانية، عقيدة ما هو خير للمؤسسات المالية في الوول ستريت، هي خير لأمريكا. وبالرغم من محاولة الديمقراطيين في تلوين الحزب الجمهوري بأنه حزب الوول ستريت... ولكن الحزبين وجهين لعملة واحدة. فيبدو بأننا اليوم نعيش فترة خلو العرش، بموت القديم، والجديد لم يتم ولادته، وفي هذه الفترة من خلو العرش، تبرز أعراض الموت المرضية. فهذا الإحساس بين موت المؤسسة الأمريكية، والنظام الجديد، الذي لم يكتمل تشكليه، يلعب دوره في أربعة مجالات، فحن نعرف بأن التغير آتي، ولكن كيف ستكون مرارة المقاومة. فنرى في سياساتنا المحلية معركة يبدو بأنه لا نهاية لها، حيث أن المتقدميين في السن من الأمريكيين البيض يستثمرون آملهم في رونالد ترمب، وتد كروز، لإنقاذهم من دولة الثقافة المتنوعة، المليئة بالمهاجريين والشباب، والتي لم يعودوا هم فيها الأكثرية. &وفي عالم التجارة نجد بأن عمالقة إقتصاد الكربون (ايكسون موبيل، ومصانع كوك، وبيبودي للفحم الحجري) يحاربون للمحافظة على تجارتهم في عالم من واجبه التحول إلى إقتصاد طاقة نظيفة. وبنفس الطريقة، يحاربون عمالقة سوق المال في الوول ستريت، وشركات تكنولوجيات السلكون فالي، ضد قوانين تنظم مهنتهم، لمنع فرض ضرائب على المليارت من أرباحهم. وأخيرا، نجد في عالم الشؤون الدولية، قوى التصنيع العسكري في الكونجرس تحارب، للمحافظة على ميزانية عسكرية كلفتها &800 مليار دولار، لكي تبقي وضع أمريكا كقوة عالمية مهيمنه وحيدة، بالرغم من علمهم بأن المستقبل هو في عالم متعدد القطبية. ومع الفوضى المنتشرة في حملة إنتخاباتنا الرئاسية، وبحدتها الإنفعالية العاطفية، يجب أن نرى بأن كل ذلك جزء من مرحلة إنتقالية، وليست مرحلة دائمة.&
&
وتستمر الصحفية لتقول: ومن سخرية القدر أن نجد بأن هناك طرفين متشددين في المعادلة ومستعدين للمقامرة، للإعتقاد بأنه بعد ثلاثة عقود من الزمن سنعيش في بلد يمثل البيض الأغلبية، بينما تؤكد الأبحاث الديموغرافية بأنهم سيصبحون الأقلية مع قبول عام 2044، وبأن الفحم الحجري والنفط الخام سيستمران كمصدرين رئسيين للطاقة، وبأن أمريكا ستبقى القوة العالمية المهيمنة، وبأن المؤسسات المالية في الوول ستريت ستحكم الإقتصاد. وبعبارة أخرى، نحن نعرف بأن التغير أتي ولا مفر منه، ولكن يبقى السؤال: ما مدى مرارة المقاومة نحو هذا التغير؟ ولذلك تبدو الحملتين الإنتخابيتين لترامب وكروز مدهشتين ومثيرتين، ومدى أهمية المنظور التاريخي لكل ذلك. ففي بدايات عام 1850، بدأ أسلاف الحزب الجمهوري تبني موقف قومي متشدد، حيث كانوا يعتقدون بأن موجات المهاجرين الكاثوليك من إيرلندا وألمانيا وإيطاليا، كانت تهديدا كبيرا وتحت سيطرة سلطة أجنبية، وهو البابا. بل إنفصلوا أخيرا عن الحزب الأم وشكلوا حزب المواطنين الأمريكيين، ولكن فشل ذلك الحزب أخيرا، بعد أن رفض الأمريكيون التعصب والعداء للمهاجريين. ولكن اليوم تبعثر أموال كثيرة للمحافظة على العالم المندثر، باستخدام العداء للمهاجرين للتقرب من الطبقة العاملة، بسبب أنهم قد لا يكونوا متعاطفيين مع المحافظة على مصالحهم في تجارة المال والنفط والصناعات الحربية. كما أن هناك مؤسسة الحزب الديمقراطي والتي تتساوى في حماية مصالح سوق المال في الوول ستريت والصناعات العسكرية. ولذلك تبرز أهمية الصراع في الحزب الديمقراطي بين هليري كلنتون وبري ساندرز. ويبدو لي بأن رسالة ساندرز واضحة، علينا إعادة توزيع كيفية صرف أموال الشعب، حيث يحاول أن ينقل جزءا من ما يقارب الترليون دولار من الكلفة العسكرية إلى الرعاية الصحية والتعليم، التي تصرف الحكومة الفدرالية أقل من 70 مليار دولار على كل منهما. وتعتبر هذه الرؤية غير واقعية من قبل مؤسسة الحزب الديمقراطي، بل يؤكدون بأن ثورة ساندرز مستحيلة، وبأن التدرج هو الأمل في أي تقدم... &ولنتذكر بأن المواطن الأمريكي مل من ديمقراطية رأس المال، لذلك 93 مليون مواطن أمريكي يحق لهم التصويت، لم يصوتوا في عام 2012، في الوقت الذي تصرف أخوة كوك المليارات لمنع تطوير قوانين القضاء المالي الإجرامي.&
&
وفي فترة عصر التقدم، حاربا الرئيسان تدي روزفلت، وودرو وليسون الثراء الفاحش لجون روكفيلر، وجي بي مورجان... ويبدو بأن هناك تمرد بين الطبقة الوسطى من الناخبين البيض، ولكن أين سيأخذنا ذلك في إنتخابات عام 2016؟ وأخمن بأن سيشعل ترامب الساحة الانتخابية خلال الستة أسابيع القادمة. ويبدو في مؤسسة الحزب الجمهوري، أشخاص كأخوة كوك، سيكونون سعيديين بتيد كروز، وماركو روبيو، فقد وعد كلاهما بخفض الضرائب عنهم، وسيحاربون أي محاولة لوضع التغيرات المناخية أولويات خطتهم المستقبلية، بل يصرون بأنهم صقور متشددة. أما من جانب الحزب الديمقراطي فالقضية أكثر تعقيدا، فكلاهما، كلنتون وساندرز، يعتقدان بأن التغيرات الديموغرافية ستحول الولايات المتحدة لمجتمع حقيقي للثقافات المتعددة، ويؤمنون بأولوية تحديات التغيرات المناخية. ولكن قلقي من كلنتون فهي ليست أقل صقرا متشددا من روبيو وكروز، فهي لن تدرس السؤال لماذا نصرف 60% من الميزانية التقديرية على الميزانية العسكرية، كما لن تعالج تحديات القوى المالية في الوول ستريت، فهي تتحدث كشعوبية، ولكنها دائما تقف مع الأثرياء. ولذلك يبقى الاصلاح الحقيقي في طرف ساندرز، فمع أنه قائد غير متكامل، ولكن أحيانا عليك اللعب بالورقة التي في يدك... وقد تكون آخر رعشة الموت، للمؤسسة الأمريكية الجمهورية والديمقراطية، لنرى كلنتون وروبيو يتنافسان على الرئاسة، ولكن قد يكون الوقت متأخرا للسياسات المؤساساتية وإقتصادياتها، كما قالها ساندرز، ولكنه إذا إستطاع ساندرز أن يضم نائبة الكونجرس، إليزابث ورون، معه كنائبة للرئيس قد يكون حظه أوفر. &
&
كما كتب روبرت مري، بصحيفة دي ناشينال انتريست، مقال بعنوان، ساندرز وترامب يدقون مؤسسة دولة الغرانيت، يقول فيه: من النادر في التاريخ الأمريكي تعرض الجمود السياسي للطرق كما هو اليوم في الحملة الإنتخابية لعام 2016، وليس ذلك فقط إنعكاس لنتائج الإنتخابات التمهيدية في ولاية نيوهامشير، بل أيضا لنتائج الإستطلاعات الأولية وتحديات المرشحين. وقد عبر عنها برني سندرز بقوله: "بأن الحملة الإنتخابية لديها الشجاعة لرفضها الوضع الراهن." فقد ذهب لصناديق الاقتراع نصف مليون مواطن، وحصل الفائزان ساندرز، وترامب، على نصف الأصوات الإنتخابية، وتلك أرقام كبيرة، بسبب رفض نيوهامشير الوضع الراهن. والعجيب بأنه قبل ثمانية شهور لم يتصور أحد بأن لهذين المرشحين أي حظ من النجاح... فقد أكد المنتخبون بأن أهم قضية اليوم هي تباين الثراء، ومصداقية المرشح... فقوانين اللعبة قد تغيرت، فلا يهتم المنتخبون اليوم بأصول المرشح السياسية، ويعتقدون بأن واشنطن منشلة لأنها فاسدة، وفاسدة لأنها سرقت من قبل مجموعة، حولت الحكومة إلى عش خاص لمصالحهم، وقد تفهم ساندرز ذلك حينما قال: "بأن النظام السياسي اليوم ليس ماهية الديمقراطية، بل ما هو إلا حكم الأقلية. بل علينا إرسال رسالة إلى المؤسسات السياسية والإقتصادية والإعلامية، بأننا في حاجة لثورة سياسية. وبأن لا تكون الولايات المتحدة شرطية العالم." كما أعترض على حرب العراق، والفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط. بينما وجدت كلنتون صعوبة في التعبير عن من هي، وما يحتاجونه الناخبين، فقالت: "للمواطنين الحق أن يغضبوا، ولكنهم جائعيين للحلول، والسؤال من هو أفضل قائد للتغير." والحقيقة ليس ذلك السؤال هذه المرة، بل السؤال: من يتحدث عن مصطلح التغير بقناعة ومصداقية، وكان الجواب هذا الأسبوع في نيو هامشير ساندرز وليست كلنتون. &ولنا لقاء.
&
&
د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان