&
كان الرومان هم اول من انشأوا نظاما لمراقبة المعارك عن بعد، أبراجا لمراقبة المعارك البرية، ونواطير علي صواري السفن لمراقبة المعارك البحرية، وفى العصر الحدبث موجهين فى أبراج المراقبة لادارة المعارك الجوية وكثيرا ما كانت نتائج المعارك مرتبطة بمدي كفاءة المراقبين ودقة توجيهاتهم للمحاربين في الوقت المناسب لأنهم يرون المشهد عن بعد مكتملا أى الصورة من بعيد. وفي الديمقراطيات العريقة تمثل المعارضة السياسية آلية المراقبه عن بعد، وحتي في الرياضة يخطئ حكم كرة القدم لانه يحكم من داخل الميدان، والبحث جار عن وسيلة للمراقبة عن بعد من خارج الساحة، ومن ثم تلافي الاخطاء الناتجة عن إصدار أحكام سريعة من قلب الحدث أى من داخل الصورة .والصوفى الجزائرى المسيحى اغسطينوس قال جلست علي قمة العالم عندما لم احتاج شيئا منه اي انه رأى الصورة من بعيد رأى الدنيا علي حقيقتها فانيه وقبض الريح.&
& وربما تعبر بفكر الانسان خاطرة أو تجربة يعتقد فى حينه أنها مبهرة وربما يصيح وجدتها وجدتها، وبعد فترة يكتشف مدى سخافتها وسذاجتها.والنظر للفكرة او التجربة من بعد زماني او مكاني يزيدها وضوحا وشمولية واتزانا وهي علي بعد كاف لتقييمها. والمقصود بالبعد الزماني هو إتاحة الفرصة للنظر للقضايا والاحداث من داخل بيئة جديدة ومختلفة،والبعدان الزماني والمكاني يوسعان قاعدة المخروط الذى يوضح للانسان ماهو موقفه الحقيقى من الأحداث وموقعه الحقيقى فى الاحداث والمعطيات التى استجدت لتفسيرها .&
& والقضاء الفرنسي وهو المرجع الفقهي الاول لكل النظم القضائية علي وجه الارض يمنع علي القاضي اصدار احكام في اي قضية الا بعد حد ادني من الوقت من نهاية التحقبقات، مهما كانت درجة وضوح القضية ، وكثير من الشعوب لا يدفنون موتاهم الا بعد ثلاثة ايام على الأقل، والقرارات المصيرية فى حياة الانسان يلزم لها الهدوء والروية اي يلزمها بعدا حتى تصدر ناضجة بتؤده وتمحيص .&
&والاحداث تولد كأجنة تتبلور مراحل تشكيل ملامحها بمرور الزمن وكم من أحداث اختلف المفسرون فى تقييمها وتصويرها حتى من عاصروها وكانوا فيها شخوص فاعلين، والأحداث لاتكتمل صورتها إلا بإكتمال ظهور نتائجها ،نتائجها المباشرة ونتائجها غير المباشرة، وهذه وتلك قد تستغرق عقودا وأحيانا قرون.
& وعندما يسترجع الانسان شريط أحداث العمر بنظرة ناضجة لكل العناصر الناس والمكان والزمان ربما يتمكن من التقييم الصحيح، فهناك من الناس من كرهناهم خطأ وهناك من الناس من أحببناهم خطأ ،وهناك من الأماكن ما تواجدنا فيه خطأ وهناك ما تواجدنا فيه صواب، ويعترينا الأسف الشديد عندما يتضح استحالة تصحيح الماضى الذى ولى الذى لم نك فيه نعرف الخطأ، لكن قد نظفر بتقييم عادل للأمور حتى نريح ضمائرنا القلقة من نتائج أحداث مرت ولم يكن لنا فيها اليد الطولى .&
& والصورة من بعيد تعنى عين المراقب المتأمل الفاحص المحايد ومن ثم يكون التقييم أقرب إلى الصواب، لكن أحيانا تتوافر كل هذه العناصر لكن يبرز تقييم مخالف لنفس الحدث، لالشئ إلا لأن أهواء شخصية صبغت الحكم أو التقييم وطوحت به فى اتجاهات مغايرة تماما للحقيقة، وكم من قضايا حكم فيها قضاه بأقصى عقوبة ثم نقضها قضاة آخرون من نفس المنصة وحكموا بالبراءة، وأثبتوا العوار والفساد المشين فى أحكام زملائهم، والفريقان يدّعون أنهم أصدروا عنوان الحقيقة بضمير مستريح، وهم محقّون فى إدعائهم فكل منهم رأى صورة مغايرة أصدر حكما بموجبها.&
& وفى أحداث التاريخ تبدو الإشكالية أكثر تعقيدا، فكم اختلف المؤرخون والمفسرون فى أحكامهم على الأحداث وأبطالها من النقيض الى النقيض بدءا من معاوية وقتل الحسين وحتى ثورة المصريين فى يناير مرورا بجمال عبد الناصر وثورة يوليو. والصورة من بعيد لأحداث تروق لنا هى صورة مبهجة خلفيتها الألق والسرور وكثيرا ما نستدعيها، والعكس تماما لأحداث مكروهة فهى صورة مقبضة خلفيتها الحزن والكآبة وتلك نهملها قدر ما نستطيع.&
& وكما يمكن النظر من بعيد لصورة من الماضى يتمتع البعض بموهبة النظر من بعيد لصورة من المستقبل ،يتخيل مكوناتها ومدى ملائمتها ويستشرف حتى خلفيتها، وهذه الموهبة هى لصيق النجاح للأفراد وحتى للشعوب . وما ينطبق على الصورة من بعيد ينطبق أيضا على الصوت من بعيد فكما نستغرب أحيانا صورتنا المسجلة الثابتة أو المتحركة، نستغربها وكأنها لغيرنا، كذلك أصواتنا المسجلة التى سبق وصدرت من حناجرنا نسمعها بشكل مغاير وكأنها لآخرين.
&تلك هى الصورة من بعيد، تتضح أبعادها كلما إبتعدنا عنها، وتظهر مجسمة، وتتضح تفاصيل نستغرب عندما نراها وكأننا نراها لأول مرة مع أنها كانت معنا فى قلب الصورة وفى قلب الحدث ولم نرها إلا بعد النظر إلى الصورة من بعيـــــــــد.