في يوم صباحي حسبته رائقا وديعا بلا منغصات او مواجع ؛ نهضت من فراشي مبكرا نشطا على غير المعتاد ؛ خطرت لي فكرة ان استعيد عادتي التي لازمتني ردحا طويلا قبل ان تتوطن الأسقام والمواجع جسدي المتهالك وأظن ان الكثيرين يشاركونني تلك العادة &التي ألفتها منذ سنين طويلة ومازالت تلازمني كلما صحوت باكرا متعافيا " الإنصات بقدسيّة الى صوت فيروز".
ولكي لا أوقظ سيدتي ورفيقة عمري نؤوم الضحى &فاني اختلي بغرفتي وحدي وأدندن مع صوتها السماوي الساحر حتى حفظت معظم أغانيها وبالذات القصائد والموشحات ، فجاءني صوتها رخيما في أوّل أغنياتها:
" أنا ياعصفورة الشجنِ --- مثل عينيك بلا وطنِ".&
&قلت في سرّي ؛ هذه قصيدة اعرفها تماما لشاعر صديق الى حدّ الحميمية أسمعني إياها فور ان كتبها في النجف ونحن في ميعة الصبا ، توا بدأنا نرتقي سلالم الشعر ومازلنا في عتبته الأولى ، هذا الشاعر اسمه " علي بدر الدين " ، شاب معمّم بعمّةٍ سوداء ، تعرّفت عليه مذ كان في العشرين من عمره حينما حطّ ركابه في مدينتي لأجل الدراسة ، واسع الأفق ، يهوى العلم والأدب ؛ جاء الى النجف من جنوب لبنان ، هو ابن قرويّ من إحدى ضيعات النبطيّة ليدرس الفقه الإسلامي في الحوزة العلمية ، هذه القصيدة التي سمعتها من فمّ فيروز قد قرأها لي اواسط السبعينات من القرن الماضي حيث كنّا معا &فتيانا نهوى الشعر ونقرأ لبعضنا ما تجود به قريحتانا من براعم شعرية تنبت في نفوسنا.
&
لايخفى على القرّاء ان أغنية " عصفورة الشجن " من عيون الأغاني التي أدّتها مطربتنا الكبيرة فيروز في لبوس لحنها ،ورقّة لفظها &وللتذكير انقل بعض أبياتها هنا:
" انا ياعصفورة الشجنِ ---- مثل عينيك بلا وطنِ&
بي كما بالطفل تسرقه ----- أوّل الـلـيل يـد الوسن&
واغتراب بي وبي فرحٌ ---- كارتحال البحر بالسفن&
راجعٌ من صوب أغنيةٍ --- يا زمانا ضاع في الزمن&
&
مما أثار دهشتي باطّراد ان السيدة فيروز أعقبت القصيدة الأولى بقصيدة أخرى مغناة من &نفس قريحة الشاعر عليّ بدر الدين في إداء غنائي ممتع أخر مازال رجع صداه يرنّ في أذني (وهي من الوزن البسيط) مطلعها:
لملمت ذكرى لقاء الأمسِ بالهدبِ ----- ورحت احضرها في الخافق التعبِ&
أيـدٍ تـلوّح مـن غـيبٍ وتـأمـرنـي ----- بالـدفء بالضوء بالأقمار والشهـبِ
حيرى أنا يا أنا والعـين شـاردة ---- ابـكي واضحك في سـري بلا سـبـبِ
&
قفزت كالملسوع فور ان سمعت الأغنية التالية ، وكأن سوطا يحفّزني ويدفعني لكتابة هذه الحقيقة الخفيّة ، لا ، لم أكن انا أحلم ؛ فهذه القصيدة الأخرى كأختها كنت سمعتها منه وكأنّ رجع صدى السنين الماضية تتناغى وتتخاطر معي الان وتذكرت ذلك الفتى الملتهب شعرا ذا العمامة السوداء الذي أجلب له الخبز يوميا من المخبز المجاور لبيتنا بعد ان يعطيني الكارت الخاص به وهي حصته اليومية من الأرغفة التي كانت الحوزة الدينية تخصصها له فنجلس لنأكل معا بعد ان يفرش ورق الجرائد ويعملها كسُفرة طعام ونتبادل سوية ماقرأنا وكتبنا وكنّا غالبا مانلتقي في عطلة نهاية الاسبوع والعطلات الدراسية عندما آتي من بغداد حيث كنت ادرس في كلية الآداب وأعود لأهلي في النجف وأراه في الرابطة الادبية التي يرأسها الشاعر الكبير مصطفى جمال الدين لكون صاحبي عضوا فاعلا ونشيطا فيها.
&
الى حدّ هذه اللحظة قد اكون نازعتني نفسي وتوهّمت وأخذني الشرود الذهني بعيدا ؛ ولكي أؤكد يقيني مما سمعت ؛ رحت ابحث في ذاكرتي عمن بقي من أصدقائنا القدامى ممن لا زال على قيد &الحياة عسى ان اظفر بالخبر اليقين اذ لم تسعفني جهينة الانترنيت بما يشفي غليلي وكل الصفحات التي أراني اياها غوغل تقول لي انها من شعر الاخوين رحباني فاتصلت بصديق مشترك بيننا يهوى الادب ويعرف هذا الشاعر كمعرفتي به يقيم في هولندا ممن كان يزاملنا وقتذاك وأكد لي صحة ظنوني وأضاف ايضا ان الشاعر علي بدر الدين عاد الى لبنان في العام/ 1980 بعد ان انهى دراسته الفقهية في الحوزة لكنه تعرّض الى الفاقة والعوز ايام الحرب الاهلية هناك واضطر ان يعرض ما كتب من قصائد للبيع الى الغير ومنها هاتان القصيدتان اللتان باعهما الى الملحن عاصي الرحباني بثمن لايتعدى الثلاثين ليرة ولاادري ان كان بخسا او مناسبا وقتذاك ولكن الذي أدريه حتما ان بضاعة الادب والشعر عندنا جدّ رخيصة في كل الاوقات حالها حال كاتب الادب والشاعر والفنان.
حمدت الله على مابقي من خصب في ذاكرتي ، فكم كان حدسي وهاجسي مصيبا ، لم تكذب أذني ما سمعت قبلا وآناً&
هذه المقايضة تبدو مشروعة في أعرافنا التجارية طالما كانت برضا الطرفين، وقد حصلت قبيل حادثة اختطاف الشاعر الفقير للمال في السنة ذاتها حيث وجدت جثته مرمية في احد شوارع النبطية بعد ثلاثة ايام من خطفه ايام كانت الحرب الاهلية تحصد الأرواح بالجملة والمفرق&
انا لله وانا اليه راجعون ولكن هل ترجع القصيدتان الى من أولدهما لتنتسبا اليه؟؟&
أشكّ في ذلك فالبضاعة المباعة لاتسترجع ولو كانت في سوق الأدب الكاسد&
&
&
&