لقد رتبت وزارة الخارجية اليابانية رحلة سياحية دراسية للدبلوماسيين الأجانب في اليابان، لمدينة ميازاكي، التي تتمتع بشواطئ نشينان الجميلة، والتي يقع بقربها جبل صخري، به مغارة، فيها موقع ضريح يسمى بضريح "اودو"، والذي خصص للسيد "ياماساشيهيكو"، والد الإمبراطور "جيمو"، وهو الإمبراطور الأسطوري الأول لليابان. وتبين الأسطورة اليابانية بأن الصخرة الشبيهة بالثدي، الموجودة في داخل هذه المغارة، قد رضعت الإمبراطور الأول، ولكن لم توضح إن كان الإمبراطور ولد في هذا المكان أم لا. وتبين الأسطورة بأن المياه التي تنزل من الصخور في هذا المكان، يفيد شربها لسلامة الحمل، والولادة، والرضاعة، وللنساء الراغبين في الحمل. وقد سألت المرشدة السياحية في هذه الزيارة إذا كان التعليم الياباني يدرس هذه الأساطير في المدارس، فكان ردها، طبعا لا، فمن الناحية العلمية، يدرس الطالب المواد التي أثبتت صحتها علميا، أما من الناحية الروحية، فيركز التعليم الياباني على تعليم أخلاقيات السلوك، وأما ما تراه اليوم والذي ينقاشه كتابي "الكوجوكي" و "النهونشوكي"، نعتبرها أساطير نستفيذ منها لفهم ثقاقة "الشنتو" اليابانية، والتي تنعكس في الأضرحة والمعابد التي نزورها، والمهرجانات والإحتفالات التي نقيمها في الأعياد، والتي تلعب دورا إجتماعيا مهما في جمع اليابانيون مع بعضهم البعض، ليتقاربوا، وليتفهموا بعضهم البعض بشكل أفضل، وليطوروا شراكة مجتمعية تناغمية جميلة بينهم.&

&
فتلاحظ عزيزي القارئ بأن اليابانيين تعلموا من قسوة تاريخهم أهمية الإبتعاد عن الخلافات الدينية والمذهبية والطائفية، بل أعتبروا كثيرا من قصص "الشنتو"، أساطير يستفيدون من حكمها ومواعضها في حياتهم. كما خلقوا بيئة مجتمعية براغماتية عملية، فتجنبوا الخلافات الأيديولوجيات المفرقة، والصراعات الطائفية الدينية، &لكي يحافظوا على وحدتهم، وتناغمهم، وعملهم المشترك، ولكي يقوا مجتمعاتهم من الصراعات الدموية، التي تمزق المجتمع، وتؤدي للفوضى والفساد، وتنتهي بإنتشار العوز والفقر، ولكي يوفروا بتواضع لشعبهم الطعام والشراب والملبس والمسكن، وفي جزر نادرة الموارد الطبيعية فيها، وليعوضوا عن ذلك، بتهيئة موارد بشرية متعلمة مدربه علميا وتكنولوجيا، ومنضبطة سلوكا وأخلاقا، وملتزمة بإحترام الوقت وقدسية العمل. كما لا يضيع اليابانيون وقتهم في نقاشات للتفاخر بدينهم أو مجتمعهم أو عقولهم، وقد عبر عن ذلك رئيس وزراء اليابان حينما سؤل: ما أسباب إزدهار اليابان بسرعة وبصورة ملفتة للنظر؟ فكان رده: نحن عقولونا متواضعة، ولكن معادلة نجاحنا تجمع بين التعليم والأخلاق والعمل.
&
وقد علق البروفيسور هاورو ساكوراي، أستاذ العلوم الدينية، بجامعة كوجاكان اليابانية، عن ثقافة "الشنتو" اليابانية، قائلا: "الشنتو هو إحساس &عاطفي لا تفكير مادي، يسمو بالإنسان، ويدعم أخلاقياته، ويهذب سلوكه. فهو نوع من الإيمان، والإيمان مرتبط بالشعور، والشعور مرتبط بالإحساس، ولو دخل التفكير الذهني في الوسط، لتلف هذا الإحساس الإيماني الجميل. وبإختصار شديد يفصل الشعب الياباني الواقع المادي الحياتي ومنطقه الذهني، عن الدين والإحساس بالإيمان، والسمو من خلاله. ففي ثقافة الشنتو اليابانية يمكن أن تسمو بهذا الإحساس لمرتبة آلهة الكامي، ومن خلال خدمة الوطن. والمعروف في تاريخ اليابان إمبراطور عهد الميجي، الذي لعب دورا في تحول اليابان الى بلد صناعي متطور، وأعتبر بعد مماته من أحد آلهة الكامي، فبني له ضريحا من أشهر وأجمل معابد اليابان. ومع أن "الشنتو" لا تحدد رسول لرسالتها، ولا كتاب مقدس، لكنها مستمرة عبر مئات السنين الديانة الموحدة لليابان. ويرجع تاريخها المكتوب لعام إلفين وستمائة وسبعة وستين قبل الميلاد، كما كان قاطنو هذه الجزر يمارسونها قبل هذه الفترة بشكل بدائي. وقد أخذ الشعب الياباني من الحضارة الصينية والديانة البوذية الكثير، وطور بها معتقداته، كما دمج الشنتو والبوذية في الممارسة الدينية وعقائدها. فالشعب الياباني مرتبط بالشنتو في كل ما له علاقة بالحياة والنمو والتطور، ومرتبط بالبوذية في كل ما له علاقة بالوفاة وما بعد الحياة.”
&
ويعتمد الشعب الياباني على مدونات كتابين أساسيين حينما يناقش تاريخ اليابان القديم وثقافة الشنتو، وهما كتاب الكوجوكي وكتاب النهونشوكي. ولنحاول عزيزي القارئ أن نتفحص هذين الكتابين، لنتفهم الكثير عن أساطير، والتاريخ القديم، وروحانيات الشعب الياباني. ولنبدأ في الجزء الأول من هذا المقال الحديث عن كتاب النهونشوكي، بينما سنناقش في الجزء الثاني كتاب الكوجوكي. وقد جمعت أجزاء كتاب النهونشوكي بتشجيع من البلاط الإمبراطوري الياباني، كما أعتمد على الوثائق المحفوظة في البلاط. ويشرح الكتاب تاريخ اليابان وكيف بدأت الحياة فيها، ويوصف ولادة الجزر، وآلهة الكامي، والعائلة الإمبراطورية، والشعب الياباني. وقد أكد المعلق على هذا الكتاب السيد كونن شيكي، بأن كتاب النهونشوكي قد جمعه الأمير تونيري، والكاتب يوسومارو فوتو نو اسون، &وقدم للإمبراطور اليابان الأسطوري الأول، "جيميو"، في عام سبعمائة وعشرين، حسب التقويم الياباني.&
&
ويدرس هذا الكتاب تاريخ اليابان و"ديانة" الشنتو منذ القدم وحتى عام ستمائة وسبعة وتسعين ميلادي، ويعرض الكثير من المفاهيم من خلال أساطير، يكررها الشعب الياباني، ويستفيد من الحكم التي وراء حوادثها. ويغطي الكتاب بالأخص تاريخ فترة الاسوكا من عام &552 وحتى عام 645 ميلادي، وهي الفترة التي تعرضت اليابان للتأثر بالحضارة الصينية والديانة البوذية، وقد كانت هذه الفترة فترة تطور الثقافة الأدبية والدينية، كما تطور الفن والإبداع. والملفت للنظر بأن هذا الكاتب يعرض الحوادث التاريخية بصياغات مختلفة حسب المراجع المستقاة منها، ويسمح للقارئ أن يقرر الصياغة القريبة من الواقع في ذهنه وبدون وصاية. وقد يكون ذلك أسلوب مهم لدي الشعب الياباني في التعامل مع التاريخ والثقافة الدينية. فلا توجد فكرة مفروضة على الشخص، بل تصورات يتعلمها، ويشعر ويؤمن بها، حسب شخصه، وبدن قسر أو عنف، بل وبتناغم جميل. فلذلك استطاعت &"الشنتو" أن تدخل في ضمير الشعب الياباني، بل وفي أخلاقيات سلوكه منذ نشأة اليابان. وحتى موضوع الموت والآخرة تتعامل معها "الشنتو" بسلاسة، فهي تخلد الروح بعد الموت، لتحوم حول البشر، وترتفع للسماء، لتدور حول الغابات والأشجار والأنهار. وإذا عمل الشخص خيرا لمجتمعه، قد ترتفع روحه بعد الوفاة لدرجة آلهة الكامي، ليصبح "كامي" تبنى له المعابد لتحوم روحه فيها. كما لا تناقش ديانة الشنتو مصير الخطاءين في حياتهم كثيرا، فلا توجد نار في الآخرة في ثقافتهم، ولم يكتب إلا القليل المبهم عما سيحدث للمخطئ &بعد الممات. فالشنتو تتحدث عن نتيجة العمل الطيب في الدنيا، فمن يقوم بعمل طيب، سيموت موتة هنيئة، وستحوم روحة بين جمال الطبيعة، لتشجع الناس على عمل الخير، بدون الخوض العميق في ما سيحدث حين يخطأون.&
&
وقد بوب هذا الكتاب في ستة عشر فصلا. ويناقشا الفصلان الأول والثاني بداية ولادة آلهة الكامي، بينما تركز باقي الفصول على تاريخ أباطرة اليابان. ويبدأ الكتاب بإلامبراطور الأول وهو الإمبراطور جيمو فينو، ويستمر حتى الإمبراطورة &جيتو تينو، التي حكمت في عام الأربعمائة وتسعة وتسعين. ويصف الكتاب في الفصل الأول كتلة كونية هيولية تشبه البيضة، وبحدود مبهمة وتحتوي على مجموعة من النطف، لينسحب الجزء الواضح والنقي &بتأني ويتحول إلى السموات، بينما يتحول الجزء الثقيل والكثيف إلى كتلة الأرض، وقد بدأت الآلهة تتشكل بينهما. ويبدأ الكتاب بوصف ولادة آلهة الكامي الواحد تلو الآخر، ومن أهم هذه الآلهة هو الازناجي والازنامي. وقد أمرت الآلهة بزواجهما لتبدءا ولادة جزر اليابان وأباطرتها وشعبها. وقد ولدت الإلهة ازنامي إبنتها إلهة الشمس، التي هي الإلهة التي استمرت ترعي اليابان على مدى العصور، بينما اختفى والديها بعد ولادتها. وهناك معبد جميل، بمدينة "ايسه" وفي وسط الغابة، لإلهة الشمس، والتي لها تقدير كبير في اليابان، ويختار الراهب المسئول عن هذا المعبد عادة من نساء العائلة الإمبراطورية.
&
ويبدأ الكتاب في الفصل الثالث بالحديث عن أول أباطرة اليابان وهو الإمبراطور "جيمو" تنو، وتعني الإله المحارب، وهو من أحفاد إلهة الشمس "أمترا سو". فقد كان الإبن الرابع للإله هيكو ناجيسا، ووالدته، تامايوري، إلهة البحر، وقد كان ذكيا منذ ولادته. وقد توج إمبراطورا في الخامسة عشر من عمره، وتزوج من اهيرا تسو هيم. وحينما بلغ الخامسة والعشرون من عمره، خطب يقول، بأن الآلهة قد وهبت الأسلاف ارض اليابان الخصبة لزراعة الرز، كما ذكر بأن آلهة الكامي أنزلت الأسلاف على ارض اليابان قبل 1,792,470 عام. وقد سمح لكل مدينة أن يكون بها لورد، وبكل قرية رئيسا، وهم يقررون الحدود بينهما، ويدافعون عنها، ويقررون كيفية التعامل مع الاعتداءات والعنف. كما توجد أرض خصبة في الجزء الشرقي من البلاد محاطة بالجبال، وبأن هذه الأرض مناسبة لتنفيذ الأمر الإلاهي، لكي تملئ اليابان مجد الكون. كما سافر "نجي هايا هي" إلى هناك ليحولها للعاصمة، وقد وافق الأمراء على ذلك، وقد كانت تلك السنة عام الواحد والخمسين بالتاريخ الياباني، أي حوالي عام 667 قبل الميلاد. ويصور الكاتب المعارك الذي خاضها الأمبراطور، وكيف قتل أخوه في أحدى هذه المعارك، وقد توفى الإمبراطور في قصر كاشيها بارا في اليوم الثالث من الشهر الأول عام السادسة والستون، بعد ما عين الأمير كامي نوناجاها ميمي خلفا له، ويوافق ذلك التاريخ عام 585 قبل الميلاد، وقد كان عمره مائة وسبعة وعشرون سنة، وقد دفن &في السنة اللاحقة في الخريف في اليوم الثاني عشر من الشهر التاسع في رابية ميساساجي في الجنوب الشرقي من جبل اونيبي. تلاحظ عزيزي القارئ بأن هناك خطاء واضح في حساب التواريخ في الكثير من بنود الكتاب، ولنتذكر بأن الكتابة اليابانية لم تتطور إلا في القرن الخامس، وأخذت الكثير من الكتابة الصينية.&
&
ويستمر الكتاب في عرض تاريخ اليابان وأباطرتها، حتى ينتهي بالفصل الثلاثين بعرض تاريخ الإمبراطورة جيتو تينو، التي كانت محافظة السلوك ومتحررة الفكر، وتزوجت من الإمبراطور امي نو نانهارا، ورزقت بالأمير كوساكابي. وقد حكمت البلاد وأدارت الجيش، وحينما اكتشفت خيانة الأمير اهوتسو، تم اعتقاله وحكم عليه بالموت، وقد رغبت زوجته أن ترافق زوجها في موته. وقد وقع جميع من حضر على هذه الرغبة، وبعدها بكى الجميع. ويتحدث الكتاب بالتواريخ الدقيقة عن تفاصيل حكمها وحياتها، ويعطي فكرة جميلة عن واقع القصور الإمبراطورية. فمثلا في اليوم الأول من الشهر الثاني عشر صدر قرارا إمبراطوريا بأن يقنع الرهبان سنويا عشرة من الأشخاص لإعتناق الديانة البوذية، &وفي اليوم الثامن من الشهر الخامس أرسل وفد لمختلف المعابد للصلاة لنزول المطر، وفي اليوم الثاني من الشهر السادس عفت الإمبراطورة عن بعض المجرمين، وفي اليوم السادس صدر أمر إمبراطوري بقراءة السوترا البوذية في معابد المحافظات، وفي اليوم التاسع عشر وزعت العطايا لآلهة الأرض والسموات، وفي اليوم السادس والعشرين بداء الوزراء بناء مجسم لبوذا للدعاء لشفاء الإمبراطورة، وفي اليوم الأول من الشهر الثامن تنازلت الإمبراطورة عن العرش للأمير الإمبراطوري.
&
تلاحظ عزيزي القارئ بأنه في عام 667 قبل الميلاد كانت هناك إمبراطورية متطورة في اليابان، كما شرح كتاب النهون شوكي &كل التفاصيل عن تلك الفترة. كما تحدث الرهبان الذين قابلتهم عن قصص الآلهة بأنها أساطير، ولكن كان الشعب الياباني يعتقد بهذه الأساطير وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعدها تعرض لصدمة عنيفة، وشكك في تاريخه وتقاليده وثقافة دينه، ولكن مع الوقت درس هذا التاريخ والثقافة الروحية من جديد دراسة متفحصة، ومع أن الكثيرين من الشعب الياباني يؤكدون بأنهم غير متدينين، ولكن تلاحظ الجميع يحترم تاريخه، وعقائد دينه، ويزور المعابد للدعاء، كما أنه ربط روحانية الشنتو بسلوكه والشعور بواجبات عمله. ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان
&