وصف الكاتب اليساري الفلسطيني المعروف (سلامة كيلة) في أحد مقالاته المتأخرة، الصراعات الجارية في الشرق ب (الثورات الحقيقية) وهي رؤية متفتحة وحكم نابع عن خلفية فكرية نقدية، استند عليها في تقييمه للثورة السورية والثورات التي ظهرت في الشرق، وفي معظم تحليلاته حول الثورة السورية، كان يصيب مع استثناءات، بعكس الأغلبية من الكتاب والمثقفين اليساريين، والفلسطينيين بشكل خاص، فمن النادر قراءة تحليلات غير منحازة من المثقفين العرب في هذه الفترة، لأن أغلبهم أصبحوا أقلام بلاط الإسلام السياسي أو قاعات السلطات الدكتاتورية، وكان المتوقع أن يستمر السيد الكاتب على ذاك النهج:
1- يحافظ على عدم الانحياز في تحليلاته وتقييماته، وأبعادها المتشعبة، لتبقى أحكامه في هذه المجالات وغيرها، المتطرقة إليها لاحقاً، بسوية المفاهيم المطروحة سابقاً، حيث البعد الفكري الاشتراكي الذي عرف بها في الوسط الثقافي العربي والكردي.
2- ويكون ملما بالغايات والخلفيات الحافزة للشعوب المستعمرة مشاركاتهم الكثيفة بالثورات في البلدان الاستبدادية، ومن ضمنهم الكرد والأمازيغ والفلسطينيين، وبشكل واسع.
3- التنقيب بمصداقية عن الحقائق السياسية المخفية عن العالم، في هذه البقعة الجغرافية، تحت غطائي العروبة والإسلام، والتي لا تختلف بشيء عن مطامح الشعب الفلسطيني.&
& الكرد كانوا يأملون من مثقف نهضوي وباحث واع على سوية السيد سلامة كيلة، الإحساس بآلام الشعوب، ومن ضمنها معاناتهم مع السلطات الدكتاتورية، من خلال مصائب الشعب الفلسطيني على الأقل، وعدم حصر مجريات الأحداث في بوتقة القومية العربية، وعدم تناسي الحقائق أمام النزعة العروبية، والتساهل مع نوايا أنظمتها الاستيطانية، والتماهي مع مثقفي شريحة البلاط، وبشاعة الثقافة التي نشرتها السلطات الشمولية الاستبدادية، المتعاقبة على الجغرافيات المحتلة مع شعوبها، وتعرية مخططات نقلهم من حضن مفهوم الأمة الإسلامية إلى الأمة العروبية والإسلام السياسي العروبي.&
تهت بين المؤثرات التي دفعت بشخصية كاتب معروف بيساريته وتأييده لحق الشعوب، التخبط السياسي المفاجئ والمتناقض مع ذاته وتاريخه الفكري، وأسباب الانزياح عن مفاهيمه بين ليلة وضحاها، والنبش بسذاجة في مستنقع الثقافة العروبية العنصرية السورية، والتي تتعارض ومفاهيمه التي نعرفها عن الثورة السورية، وللأسف يقدم بها خدمة مجانية للمعارضة التكفيرية العروبية وسلطة الأسد والبعث. فالمقال المنشور في تاريخ 24 آذار 2016م تحت عنوان (الفيدرالية السورية) الموضوع الذي لا جدوى بالدخول في حوار حوله، لأن المطروح في المقال لا يرقى إلى سوية النقاش عليه، ولا يعكس قدرات الكاتب المعرفية والعمق الثقافي ورؤيته السياسية، بل تنم عن ضحالة فكرية عرضية، أو نقص معلومات حول هذه القضية السياسية الديمغرافية الجغرافية لغربي كردستان، وفي الحالتين، إن كان عن قصد فهي مصيبة، وأن كانت عن غاية فهي كارثة.
& &إن الفيدرالية من الأنظمة التي كتبت عنها "جبال" من الصفحات والدراسات والمقالات وأقيمت لأجلها أعداد لا تقدر من المؤتمرات والكونفرانسات والحوارات الفكرية على مستوى الاستراتيجيات العالمية وضمن قاعات الأمم المتحدة، ولها أشكال وأنواع، ومن المؤسف بأن السيد سلامة كيلة يعرضها وكأنه لا يعلم أن 70% من دول العالم &بل والعشرة الأوائل &منها مساحة وقوة عسكرية واقتصادية تتبع النظام الفيدرالي، الذي أثبت وعلى مر التاريخ السياسي أنه من أفضل الأنظمة التي تصون حقوق الشعوب وتحافظ على استقرار الأوطان، فعدم الإلمام بهذه الثانويات من المعلومات، تحضنا على تركها، والتعويض بنصيحة للأخ الكاتب بتثقيف الذات في هذا المجال. وإن كان نقده يركز ويبطن بأنها فيدرالية ظهرت في شمال سوريا من جانب حزبي، دون الشعب، أو الدولة الاستعمارية أو الدستور المطعون فيه مسبقاً، فهي جدلية ساذجة &كررها ببغاوياً معظم المعارضين، فكما هو معلوم ليس فقط الشعب الكردي يطالب بتطبيقه، بل أغلبية الإثنيات الأخرى في سوريا تطمح إليه وتسعى إلى تحقيقها كنظام لكلية سوريا، لكنهم -رهبة- وخوفاً من مثل هذه التهجمات العشوائية يسكتون عما يريدون، فجميعهم أصبحوا يدركون بأنها الطريقة الوحيدة المتبقية لحفظ سوريا من الانقسام و"الثارات" القادمة ووقف الحرب الأهلية، وصون كرامة الشعوب والطوائف ضمنها. فسوريا المستقبل ذات السلطة المركزية المتوقعة أن تكون تحت سلطة إسلامية عروبية سوف لن تكون أقل بشاعة من سلطة بشار الأسد والبعث، ولو استمع كاتبنا لتصريحات شريحة من المعارضة السورية، أو حديث (أسعد الزغبي) رئيس المفاوضين في المعارضة السورية في قناة أورينت، حول الكرد والشعب الكردي لأدرك هذه الحقيقة.
& &ليت &السيد سلامة كيلة بقي محافظاً على مسيرته الفكرية، وظل مبتعداً عن مفاهيم العديد من المثقفين العروبيين، والسياسيين، الذين كانوا ينتظرون مثل هذه اللحظة المصيرية، لإصدار ما بداخلهم من كراهية تجاه الشعب الكردي، ومن بينهم (اسعد الزغبي) الضابط البعثي المعروف، وغيره من البعثيين وجماعة الإسلام السياسي العروبي، والذين أصبحت أسماؤهم تطفح عنصرية عوضا عن الوطنية، وبينهم خريجو سجون البعث بعد الدورات التثقيفية- التي فرضت عليهم- في غسل أدمغتهم من الوطنية، وهي شريحة بينت عن ذاتها الانتهازية، ضمن المعارضة السورية، وتمكنت من تصدر قيادة الائتلاف اليوم، فلم يتملك كثيرون منهم ذاتهم بعد الإعلان عن النظام الأنسب لسوريا وغربي كردستان، وطفحت بهم الخلفية الثقافية العدائية، على عتبة بروز القضية الكردية على الساحة الدولية، وخروجها من تحت عباءة التعتيم والتناسي المخطط، ومعظمهم وجدوا ضالتهم في الصيغة الفيدرالية، والتي هي في الحقيقة أقل رهبة من التقسيم الجاري على الساحة الجغرافية بين سوريا والعراق، والصامتة عليها القوى السنية في المنطقة، من دول وحركات. وفي الواقع، الكرد عندما يطالبون بالفيدرالية فإنهم يهدمون مخططات التقسيم الجارية في سوريا والعراق، وهو نظام منطقي وعملي يعري المتكالبين على تجزئة سوريا والعراق، وبها يثبت الكرد أنهم أصدق لوطنية سوريا من المتصارعين على السلطة المركزية...
&
& & كان الأولى بالسيد سلامة كيلة التركيز على القضايا المصيرية في المنطقة والعالم، والتي يبحث فيها بمقالاته القيمة وكتبه، ومنها تلك التي تهدم مسيرة الثورة السورية، أو تدعمها، والتي كنا نظن بأنه يؤيدها عن عمق معرفة، ويؤيد شعارها الأهم وهو إسقاط النظام بكل مجالاته وتشعباته، ويعي نتائج هدمه أو تشذيبه، ويدرك معنى استغلال الشعوب أو سلب حرياتها، وإسقاط الأنظمة الثقافية والسياسية والاقتصادية، وتهذيب الثقافة التي &شوهتها السلطات العروبية والإسلام العروبي، لكن في لحظة غير متوقعة سقط عن مكانته، متماهياً إما &بوعي أو لا شعورياً مع الفكر الطافح بالإسلام السياسي، تحت تأثير النزعة العروبية، والتي هي في سوية كاتبنا الفلسطيني جريمة ثقافية، بحق الذات &ومتابعي &كتاباته. فمثل هذه المطبات والأخطاء الفكرية تدفع أي كاتب مهما ثقل وزنه إلى الانزلاق بالتدرج إلى النهج الراديكالي في الإسلام، والعنصرية العروبية، اللذين حرفا الثورة السورية، وأولدا المنظمات الإرهابية، والمعارضة السورية المشوهة، وحافظت على سلطة بشار الأسد حتى اليوم، وهي نفسها المفاهيم التي حرفت المثقف العربي الوطني واليساري عن مسيرته النقية ووجهته إلى الانغماس في مواخير العنصرية العروبية، وأول روائحها ونتائجها كراهية الأخر.&
& فالبحث في قضايا تاريخية، دون معرفة مسبقة وعميقة بديمغرافية شعوب المنطقة وبينهم الكرد، سذاجة، وتناول الجغرافية السياسية المتكونة في بداية القرن الماضي، بتلك البساطة، ذاك الوليد المشوه والمولود بعملية قيصرية والمسمى اليوم بالجمهورية (العربية) السورية حصراً، وإسقاط الأحكام، تنم عن ضحالة فكرية، فبالإمكان التعمق في الأرشيف والعودة به إلى بدايات ظهور الموجات الأولى من القبائل العربية في المنطقة، ولربما أبعد إلى حيث بدايات ظهور القبائل الأولى للفلسطينيين، وتسمياتهم الأولية، فالاستناد إلى هذا النمط التحليلي الفكري، في حل قضايا الشعوب كالشعب الفلسطيني أو الكردي تعكس السطحية في فهم الأمور السياسية، وجهالة بالعديد من المجالات المعرفية. فكان الأولى بالسيد سلامة كيلة النأي عن التلاعب بهذا النار، والتي أحرقته كباحث وشوهت مفاهيمه، فجغرافية غربي كردستان، تبحث ليس كقطعة جغرافية ضمن دولة كانت لها وجود تاريخي وتقبلت هجرات بشرية، بل تنظر إليها على أنها جغرافية قطعت من الأصل الكردستاني، وشكلت بها جسم وليد مشوه، حكمها طغاة منذ اليوم الأول، وهي سوريا اليوم، بجغرافيتها المرفوضة حينها من جميع شرائح المجتمع الذين أغلق عليهم بحدود سياسية مصطنعة، وما طرحه كاتبنا من أراء والطريقة التي عرض بها لا تختلف عن الثقافة المشوهة التي خلقت العشرات من أمثال زكي الأرسوزي وميشيل عفلق وأكرم الحوراني وحافظ الأسد، والذين يعرفون بالنازية العروبية.
يمكن تبرير هذه الآراء الشاذة لشخصيات المعارضة السورية، المتشبعة بثقافة البعث، والخارجة من أحضان سلطة الأسدين، لكنها لا تبرر لكاتب فلسطيني معروف في مقام ووزن السيد (سلامة كيلة) وأول ما يتبادر إلى الذهن: ماذا سيكون رد فعله، لو طرح الكردي فكرة عدم أحقية الفلسطيني بطرد أحفاد النبي سليمان وموسى عن أرض الميعاد، وأن إسرائيل أفضل دولة ديمقراطية في الشرق، وهي تحفظ حقوق الشعب الفلسطيني وتسمح لهم بفتح الجامعات والدراسة بلغتهم، والاشتراك في الانتخابات وطرح القضية الفلسطينية ضمن الكنيست؟ فلماذا لا يسكت الفلسطيني ويناضل في هذه الأجواء الديمقراطية أو يعيش ضمنها بسلام؟ فهل سيتمكن سلامة كيلة الجرأة بطلب مثل هذه الحقوق من السلطات التي تحتل غربي كردستان أو أرض الأمازيغ، أو القبطيين؟ ولنسأل أيضا، هل قدمت السلطات العروبية الاستعمارية للشعوب المحتلة وفي مقدمتهم الكرد أو كرد غربي كردستان، والأمازيغ والبربر والقبطيين، والسريان وغيرهم، مثل ما قدمته إسرائيل للفلسطينيين، ورفضوها؟ لا أظن، ولا شك سيجد المثقفون العروبيون تبريرات وتحليلات ذاتية لهذه الأسئلة، لكنها لن تعكس الواقع ورؤية الآخر، وستبقى الأجوبة غارقة في الأحقاد العنصرية. ولا ننسى حقيقة قد تكون مرة، وهي أن اليهود أقرب إلى العرب من الفلسطينيين إلى العرب، والتاريخ بكل مجالاته يشهد عليه، وليت السيد سلامة كيلة تعمق في هذا المنحى الدراسي، وقارن بين تاريخ الشعب الكردي والفلسطيني بنزاهة الباحث وليس بعنصرية عروبية، أومن المنطق الفلسطيني، أو الذين شوهوا التاريخ الكردي قدر الإمكان، وليته حاول التعمق في خلفيات غربي كردستان السياسية والديمغرافية والشعب الكردي ضمنها، أو ضمن سوريا كما يحلو له، ولغيره من المعارضة السورية العروبية التركيز عليها، وعدم تناسي عمليات التعريب والاستعراب والتهجير والاستيطان، والتي عملت عليها السلطات العروبية وعلى مدى قرن وأكثر بدون توقف، والمسكوت عليها دوليا وإقليميا.
هشاشة الإيمان بأحقية الشعوب بحق تقرير المصير، أو حتى بنظام فيدرالي، مثلما يريده الكرد لسوريا القادمة، وبنظام لا مركزي، تعدم في الذات الثقة بحقوقه، أو القناعة الداخلية بأحقية مطالبته بالحرية لشعبه، وهذه تنجر على الكاتب وأغلبية شخصيات المعارضة السورية، فالشعوب في عمقها لا تختلف في الحقوق، بل السلطات الاستبدادية تخلق الاختلافات، لتستمر في طغيانها، فالكرد من الحالات الاستثنائية بين شعوب المنطقة، لا يعانون من استعمار الشعوب بقدر ما يعانون من استعمار السلطات الدكتاتورية، الدافعة بشعوبها ومثقفيها وكتابها لمعاداة الشعب الكردي.&
&
الولايات المتحدة الأمريكية
&