كتب الأخ الكاتب محمد الشويعر مقالة في صحيفة الشرق حول فكرة التسامح وربما العفو مستدلا بقصة من التراث العربي القديم الزاخر بآلاف القصص المشابهة لتلك القصة التي سأورد ملخصها هنا وتعليقي عليها:

تتحدث القصة في مختصرها عن أحد أمراء الموصل في عهد الخليفة العباسي المأمون الذي أحضر له غلمانه المحيطون به رجلا كان الأمير ناقما عليه &ربما لأنه حسب ظني سرق أحد دجاجات الأمير أو لم يعجبه شكله .. وقد ظن الغلمان أن الأمير سيسعد بذلك ويسفك دمه لكنه عفا عنه ولا أذكر بقية القصة ولا حتى بدايتها مثلما كتبها الكاتب الكريم الذي هدف من كتابة المقالة الى ترسيخ قيم التسامح ، وهي مهمة سامية لكل كاتب ينطلق في كتابة مقالاته من مبادئ انسانية سامية تؤلف بين الناس وتدعو الى لغة الحوار والسلام والمحبة.
ورددت في حينها عبر حوار عابر في مكان ما على القصة وليس على الكاتب الذي أدرك هدفه النبيل في استحضاره للجوانب المشعة من القصة..... بعد ذلك شعرت ان الموضوع يستحق مقالة مني وقد تشعبت أفكاره وقصصه فأخذت تعليقي الذي بدأت فكرته في ذلك الحوار العابر وأضفت عليه الآتي :
مالفت انتباهي في قصة المقالة هو ما يلفت &انتباهي منذ أن ملكت القدرة على القراءة والتفكير المستقل عن أي تأثير أو تلقين مسبق &، وأقصد حكايات الغلمان والجواري والعبيد الذين يحيطون بذلك الأمير الموصلي وكل الأمراء والأولياء في العصور القديمة وما نقرأه من قصص وحكايات لاتخلوا من فنتازيا قد لايصدقها العقل لولا أن تأكيد تلك الحكايات وتكرارها وتوثيق رواياتها تمنع العقل أن يستمر في شكة وريبته.
والغلام حسب علمي &هو صغير السن المراهق .. الذي لايتعدى سن العشرين من عمره.
والجارية : هي العبدة المملوكة لأسباب عدة .. وكذلك العبيد بشكل عام هم المملوكون عند سادتهم.
ولكن من حسن حظ ألأمراء والأولياء في ذلك الوقت أنه لم يتم تأسيس human rights watch وكذلك من سوء حظ العبيد والغلمان والجواري الذين ينطبق عليهم القول في ذلك العصر : مصائب قوم عند قوم فوائد.
ولايعني أن منظمات حقوق الإنسان التي يملأ ضجيجها فضاء العالم الحديث قد أصبحت منقذا لكل المظلومين والمستعبدين ، فهي لاتزال في أغلب أهدافها مسيسة وتخدم أجندات دولية ومصالح قوى لكنها عندما تستخدم لهدف نبيل تؤتي ثمارها.
وكثيرا ما تثيرني &تلك القصص العربية القديمة التي تتحفنا بها كتب التراث العربي وتمجدها &وكأن المراد من تكرارها أو دسها وسط عسل النصح والتراث والوعظ &بحسن نية أو بسوء نية هو لترسيخ &الخنوع الذي يصوره المؤرخون من ذلك التاريخ كوجه جميل لمراحل سلبت فيها كرامة الإنسان وحريته أسوأ سلب وظلت سيرة &تلك المراحل السيئة من عمر الأمة تتنقل عبر المنابر وكتب التراث والمناهج دون أن يدرك حتى الطيبون الأبرياء خطورتها في ربط عقل الانسان العربي بماض رحل بكل ايجابياته وسلبياته ولايجب أن يبقى على الأقل في ذاكرة الناس بصوره الأكثر سلبية .
وأتخيل الوالي أو الأمير حين يكون &محاطا بالغلمان والجواري والعبيد الحراس يحضرون له من يريد كالنعجة ليمنحه الوالي دراهما أو يجلده أو يقص رأسه حسب المزاج... أو حتى يركب ظهره الى أقرب محطة علف!
بل أن مؤرخا محايدا لا يستطيع أن يتجاهل دور النساء الرخيصات والغلمان في تشكيل واقع تلك المراحل الدينارية .
لكنني لم أر نقدا منهجيا لتلك المراحل يفكك لنا سر عبقرية الشعر في ظل القمع .. وعشق الأمراء أن يحاطوا بالأعداد الكبيرة من العبيد والغلمان والجواري والشعراء المأجورين!
قلت للأستاذ الشويعر : &الفرق بين عرب الماضي ... وعرب الحاضر:
أنهم في الماضي أيام الأمير الموصلي محمد الطوسي الذي ذكرته في قصة مقالتك : لا يملكون تكنلوجيا اليوتيوب .. لكي يتم تصويرالغلمان والجواري وهم يحيطون بمولاهم ويتلذذون في إحضار ذبيحته الإنسان : الذي بفضل حكمة ورحمة الوالي ... &لم تقطع رقبته.
وقد يكون سعادة حضرة الوالي في مزاج حلو .. وستر الله ولم يأمر بقطع رأس الذي سرق دجاجته ... أو عكر مزاجه!
وشكرت صديق الحوار وقلت له: لقد &أعدت ذاكرتي الى زمن العرب الجميل الذي منه نستمد حضارتنا !!!!!
ثم تداعت الأفكار والصور التي ترسخت في مخيلتي عبر القصص والكتب والحكايات القديمة وتذكرت قصة أوردها الكاتب الإسلامي الشهير خالد محمد خالد رحمه الله في صحيفة الشرق الأوسط قبل عقدين أو أكثر ... وهو يوردها نقلا عن كتب التراث ولم يصنعها في عقله.
تقول القصة حسب ما أتذكره حين نقلها في ذلك الوقت الأستاذ خالد محمد خالد :
كان الحجاج .. جالسا في مجلسه محاطا بالعبيد والحراس.. وعلم أن رجلا يستهتر به ويستخف بقسوته.
قال &لهم الحجاج: أحضروه.. فأحضروه مقيدا &.. &ثم سأل الرجل:&
&أتسخر مني ؟!
&الرجل: نعم .
الحجاج: هاتو السيف دعوني أقطع رأسه... وقبل أن يقطع رأس الرجل كان الحجاج في قمة انسانيته ورحمته وعطفه وطلب من الرجل أن يطلب شيئا قبل إعدامه .
لكن ذلك الرجل الشجاع بكل سخرية واستهتار قال :
&بصراحة أريد أن أضحك عليك قبل أن أموت.
فغضب الحجاج وصرخ بقوة &جعلته يفقد أعصابه وتوازن جسمه وأخرج سيفه بسرعة &ليقطع رقبة الرجل ... فضرط ... ولم يجرؤ الناس حينها أن يطلقوا إسم طقعان على الحجاج.
وتحققت أمنية الرجل الذي ضحك أحلى ضحكات حياته ، قبل أن تتدحرج جمجمته ككرة قدم بين أقدام مارادونا!&
طبعا ... أضفت بعض البهارات من عندي .. لكني لم أغير في جوهر القصة التي ذكرها الأستاذ من التراث وإن كنت لا أذكر مراد الأستاذ خالد محمد خالد من القصة.
المؤلم في الأمر أن هناك من يظن أن الحجاج يمثل صورة جميلة للتراث الإسلامي والأمر عكس ذلك .. فلايمكن أن يكون الطاغية بصلفه وقسوته وجبنه إلا أمام الضعفاء : مرآة لتراث يفتخر بأن نبي الرحمة &صلى الله عليه وسلم &هو القدوة العليا في الرأفة والعدل &لكل مؤمن بالقيم الإنسانية العظيمة.
هكذا : يعيد العرب صياغة تاريخهم بالإحتفاظ بآلاف الكتب التراثية &التي تمجد الطغيان والإستبداد والقهر بينما أُحرِقت المكتبات التي تحوي فكر العلماء والفلاسفة الذين أصبحوا بفعل التاريخ المزيف والتراث الممسوخ : مبتدعة و زنادقة لأنهم حاولوا أن يحرروا الإنسان من سطوة الجهل والخوف والقمع والخرافة.
لايمكن لأمة أن تمجد تراثا وتفتخر به دون أن تنقيه من بقايا الخرافة وشوائب الزيف في عصر أصبح فيه العالم قرية صغيرة يراه الطفل عبر ضغطة فيس بوك أو واتس اب أو فلم يوتيوبي .. بينما لاتزال كتب تراثنا تتحدث عن ذلك الإعرابي الذي عبر بعفويته بما لايرضي الأمير الجالس على أريكته محاطا بالغلمان والعبيد والجواري.... يقول الوالي للعبيد إجلدوه أو إسجنوه أو أقتلوه .. أو أعطوه مئة دينار... وكأن الإنسان عند ذلك الوالي مجرد تيس أو حمار أو دمية. &&
&ولا أعتقد أن في تراث أمة من قصص الخوف والخنوع والخرافة وبيع الآدمي وشرائه &مثلما تخبرنا به كتب التراث العربي.
&صحيح أن بعض الكتاب بنقاء صادقين يوردون تلك القصص ليعكسوا الجوانب المضيئة فيها كي يخلقوا واقعا أجمل، لكنهم لايشعرون بخطورة الجوانب المعتمة لتلك القصص عندما تترسخ في أذهان الناس بشكل إيحائي تعيد العقل الى منشأ مأساته أو على الأقل تمنعه أن يتجاوز فكر ذلك العصر الذي حتى لو كان فيه شيء من الإستنارة فإنه لم يعد صالحا للإستنساخ بعد ألف سنة بحكم تطور الفكر البشري وإختلاف الزمان والمكان والفكر والتجربة!
&
&