&

كأي سلعة أخرى، صدر إلينا الغرب صناعة التدريب المهني، وغدت الصحف اليومية مليئة بإعلانات الدورات التي يصفونها بأنها "ستعزز من سيرتك الذاتية وتزيد فرصة حصولك على وظيفة". كيف لا والمدرب حاصل على شهادة مدرب معتمد من جامعة "برقوشيا" والمشكلة أن الحكومات تبنت هذه الدورات التدريبية وفتحت قسما خاصا أطلقت عليه اسم "التطوير والتدريب" وعندما يرسلون موظفا أشيبا وخبيرا، وله مؤلفات وباع وذراع في مجاله، يجلس بين الشباب، يستمع إلى ما حفظه عن ظهر قلب وثبت له عدم جدواه وهدره للوقت والمال.&
في هذه الدورات، يتدرب الموظف على المجالات التي يتضح أن لديه ضعفا فيها، أو هكذا يجب أن يكون عليه الحال، لا أن يستمع إلى كيفية التواصل مع الزملاء وحسن الإصغاء لهم، ولا على التعاون فهو أمر بديهي، لأن هذه أمور لها علاقة بالتربية والبيئة التي نشأ فيها الفرد، ولا يخفى على أحد أن الأخلاق القويمة لا تحتاج إلى دورات، بل تحتاج إلى تنشئة أخلاقية منذ الصغر، وبيئة تشجع على التعامل الراقي، وقيادة نشطة دائمة الحركة يراها الجميع بشكل متكرر، وليس مسئولا أو مسئولة لا يراه الموظفون في السنة مرة، خاصة في ثقافتنا العربية حيث يعتبر المسئول نفسه جوهرة نادرة لا يجب الاقتراب منها.&
يحاول المدربون المهنيون غرس الثقافة المهنية السليمة والأخلاق المؤسسية، وكأنها معادلة حسابية، يفهمها الطلاب ويتقنونها وينجحون في الامتحان، مع أن الجميع يدركون أن الأخلاق نتاج سنوات طويلة من التنشئة الاجتماعية السليمة يتعلم فيها الفرد أن له حقوقا يجب أن يحصل عليها ولديه حقوق يجب أن يعطيها لأصحابها وأن يتعامل مع الناس بكل احترام وصدق وشفافية، وبالطبع فإن غرس هذه المبادئ في ثقافتنا العربية أمر صعب للغاية إذ أن هناك تجاوزات في كل شيء فيكبر الأفراد وفي أذهانهم عقلية اللص والفهلوة لأنهم تعلموا أننا لسنا أمة إنجاز ولكننا أمة "تسليك أحوال" وأن الإنسان مهما اجتهد لن يحصل على الترقية التي يستحقها لأنها محجوزة لفلان ابن فلان. فيتبنى الجميع ثقافة المراوغة والدجل بصرف النظر عن المصلحة العامة. وهذا الشخص نفسه سيصبح مثالا للأخلاق وحسن السلوك لو أنه يهاجر إلى الدول المتقدمة ويتعلم منهم الصدق والاستقامة.&
والأدهى من ذلك، أنك تجد في المؤسسة، إذا كانت حكومية، أناسا يعملون في غير تخصصهم ويقومون بتقييم الشخص المتخصص، أما في الدول النفطية، فإن المواطن مهما كان تخصصه يحق له أن يفعل أي شيء مع زميله الوافد بما في ذلك تكليفه بمهام ليست من مسئولياته وتقييم عمله وإعطائه النصح والتوجيه من الحكمة التي أتاه الله بها من خلال النعمة النفطية. وقد قالت لي سيدة ذات مرة "نحن نفرح كثيرا عندما تأتينا معلمة وافدة لأننا نعطيها كل أعمالنا فتقوم بها" وهذا مجرد مثال صغير، فهناك بعض الصبايا يصححن ترجمة من له باع وذراع في الترجمة وهي متخصصة في الكيمياء مثلا، وهذا الحق بالطبع استمدته من كونها مواطنة فقط لا غير. فأي تدريب مهني يتحدثون عنه؟&
إنهم يتدربون على القشور ويتركون جوهر الأمور، فالأمر لا يحتاج إلى كل هذا التعقيد. إما أن تكون مخلصا أو لا تكون، وإما أن تشكل عصابة أو تشكل فريق عمل، وإما أن تكون مسئولا وثيق الصلة بالعاملين أو تنعزل عنهم وتفوض الصلاحيات لمن لا يفهم كيف يستخدمها ويتعسف في تطبيقها حسب مشاعره الشخصية، وباختصار إما تكون متحضرا أو تكون همجيا وتتصرف بعلقية الغزو والغارة والفزعة.&
إن التدريب والتطوير المهني وجد أصلا لإكساب المهارات وليس لإكساب الأخلاق، فإذا كان المدير صادقا في عزمه على غرس الأخلاق الفاضلة، فلينزل إلى الميدان ويحتك بالموظفين ويطلع على تفاصيل الأعمال، لكي يشعر الموظفون أنهم مسئولون عن حسن الأداء وأن المدير بنفسه يتفاعل معهم ويحترمهم ويأخذ بآرائهم، فيشعرون بقيمتهم وأهميتهم والأهم من ذلك، يشعرون بوجود مراقب لأدائهم فلا تنفلت الأمور من عقالها فيرجعون إلى عقلية البداوة والبدائية والغوغائية.&
&