ثمة عبور صعب ما بين النظرية من طرف والتطبيق من طرف آخر ويتمثل ذلك بصورة صارخة في دراسة الماركسية كنظرية علمية جامعة من جهة وما أوحت به الماركسية من تطبيقات على الأرض السوفياتية من جهة أخرى، نقول أوحت به، وليس ما أوصت به، لأن ماركس لم يوصِ من قريب أو بعيد بما يقتضيه عبور الاشتراكية نحو الشيوعية من أعمال أو تطبيقات باستثناء طبيعة الدولة وهي دولة دكتاتورية البروليتاريا .
عبثاً يدعي الشيوعيون أنهم ماركسيون حقيقيون وهم لا يعلمون شيئاً عن تاريخ الإشتراكية السوفياتية . لا تكتمل النظرية الماركسية من غير الإلمام بأدق تفاصيل تاريخ التجربة السوفياتية وإلا ظل الكلام في الفراغ . ما اكتشفته أنا عبر محاكمات تاريخية امتدت لأكثر من نصف قرن أن الشيوعيين سواء كانوا من المستنكفين أو من الثابتين وحتى أولئك الذين عايشوا الإشتراكية في روسيا وفي موسكو ما تكلموا إلا في الفراغ حيث أن جهلهم بتاريخ الاشتراكية السوفياتية هو جهل مطبق حتى بمحطاته العامة خلّيك عن الخاصة والهامشية . لذلك بالضبط وتنوبراً لذوي الشأن بل وللعامة أيضاً نقص تالياً وقائع وحقائق مسيرة الشيوعية التاريخية في حلقات متتالية علَّ القارئ المدقق يكتشف الأهمية القصوى لما كان يجهل أو يعلم على غير حقيقته . &
نقص وقائع وحقائق مسيرة الشيوعية التاريخية فيتطفل نفر ليحاكموا التاريخ وهم لا شأن لهم في الموضوع سوى العداء للشيوعية طالما ليس لأحد من بني البشر أن يحاكم التاريخ ؛ كما أن هؤلاء القوم ليسوا في مستوى الفهم الماركسي للتاريخ، عداك عن محاكمته ؛ يشوشون على فهمنا للتاريخ وما نود شرحه والتنبيه إليه . ويبدو أن هدفهم الوحيد يقتصر على التشويش على ما نستهدف، أو لعلهم يرومون الإضاءة على ذواتهم وهم ما كانوا ليفعلوا ذلك &لو علموا أنهم بذلك إنما يعتّمون على ذواتهم إن كان لهم ذوات أصلاً .
أما أولئك الماركسيون الذين لم ينجحوا في قراءة التاريخ رغم أن إدعاءهم بالماركسية يستوجب منهم ذلك &فيلتزمون الصمت المطبق وهو ما لا يمكن تفسيره بغير الهروب من المواجهة التي من شأنها أن تكشف نفاقهم وأحابيلهم الخيانية وتؤدي بالتالي إلى طردهم من وظيفتهم كمرجع سياسي استطيبوها واستمتعوا طويلاً بعوائدها المعنوية على الأقل دون خشيةٍ منهم في أنهم يضللون الطبقة العاملة ويخونونها .
لهذا وذاك تراني ههنا أكتب عن وقائع وحقائق مسيرة الشيوعية التاريخية لعلها تُسكت الأولين وتُنطق الآخرين . فالحقائق تقطع ألسنة السوء حيث تشرح ذاتها لذاتها عبر التاريخ وهو دائماً الشاهد الملك . ورغم أن التاريخ هو الشاهد الملك إلا أن الكثيرين من الشيوعيين بصورة خاصة يتجاهلون أو الأحرى يجهلون شهادته ولذلك تجدهم يدينون التجربة الاشتراكية السوفياتية ويستنكرون على الأخص إدارة ستالين الدكتاتورية والبيروقراطية .
ويحلو لبعض المتطفلين أن يندد بمنهجي في الكتابة لأنني لا أعتمد على مراجع ونصوص محددة والإشارة إليها، ويفوت هؤلاء الطارئين على الكتابة أن وقائع التاريخ هي أقوى من أية استشهادات وأن الماركسية التي لا أكتب إلا فيها إنما هي قراءة التاريخ قراءة علمية وموضوعية لوقائع وحقائق التاريخ .
&
في التاريخ ..
ولد كارل ماركس في مدينة تراير(Trier) & من بروسيا في العام 1818 حين كان الإقتصاد في غرب أوروبا يخطو خطواته الأولى على طريق الرسملة ويغدو غرب أوروبا مركز العالم الرأسمالي . وما إن بلغ كارل سن الشباب حتى تحقق ملء العقل والبصر من أن طبقة إجتماعية جدبدة قد ولدت في المجتمع الرأسمالي الجديد وهي طبقة البروليتاريا التي وحدها فقط بموجب تقسيم العمل في النظام الرأسمالي تنتج كل أسباب الحياة لمختلف الطبقات في المجتمع بالإضافة إلى الأموال التي يراكمها الرأسماليون من فوائض القيمة . والسؤال المركزي الذي تفرضه علاقات الانتاج الرأسمالية هو .. لماذا ينتج العمال كل خيرات المجتمع ثم يستولي عليها الرأسماليون ليوزعوها وفق نسب هم يقررونها فلا تزيد حصة البروليتاريا في أفضل الحالات عن 75% مما تنتج !؟ &ثمة تعارض كبير بين نسبة تقسيم العمل في الإنتاج بين الطبقات ونسبة حصصها في تقسيم الإنتاج . رفضاً لهذا الحيف انضم ماركس وإنجلز إلى عصبة الشيوعيين في بروكسل وأصدرا بيانهما الشيوعي الشهير 1848 يطالب عمال العالم بالوحدة والقيام بثورة اشتراكية تشمل العالم كله، تقضي على تقسيم العمل وعلى تحصيص الإنتاج . وما يجدر الإشارة إليه في هذا السياق هو أن الثورة الاشتراكية التي دعا إليها ماركس لتقويض النظام الرأسمالي لا بد أن تأخذ شكل النظام الرأسمالي نفسه، لها مركز هو مركز النظام الرأسمالي وأطراف هي أطرافه، وعالمية الآفاق مثلما هي آفاق النظام الرأسمالي العالمية .
بعد ست عشرة سنة من إعلان المانيفيستو الشيوعي أي في العام 1864 شكل ماركس الأممية الشيوعية الأولى تضم قادة عماليين من مختلف البلدان والتي كانت ستقود عمال العالم إلى القيام بثورة اشتراكية عالمية تأخذ على عاتقها محو الطبقات لأجل إقامة مجتمعات شيوعية غير طبقية حيث لا يكون فيها تقسيم للعمل أو تحصيص للإنتاج . بعد سبع سنوات عجاف واجه ماركس خلالها أنماطاً من المغامرين والفوضويين من البورجوازيين ضيقي الأفق، قامت في باريس 1871 كوميونة عمالية غرقت بالدماء دون أن تتمكن من الإمساك بالسلطة لأكثر من شهرين . شكلت تلك الكوميونة تجربة غنية تعلم منها ماركس الشيء الكثير . أهم ما تعلمه ماركس من كوميونة باريس هو أن البروليتاريا حتى في مراكز الرأسمالية المتقدمة في غرب أوروبا لم تصل بعد إلى مستوى الثورة الإشتراكية التي كان قد دعا إليها قبل ربع قرن في البيان الشيوعي ؛ لذلك بادر ماركس إلى حل الأممية الأولى في العام 1873، ولم يعد إلى تشكيل أي تنظيم ثوري خلال السنوات العشرة التالية من عمره قبل أن يرحل عن ذلك العالم الرأسمالي في العام 1883 .
كان الوريث الشرعي الوحيد لتراث ماركس هو صديق عمره وشريكه في البيان الشيوعي فردريك إنجلز . لآحظ إنجلز قبل نهاية الثمانينيات من القرن التاسع عشر قيام أحزاب اشتراكية ذات شأن في معظم البلدان الأوروبية فدعا إلى إجتماع عقد في يوليو 1889 في باريس حضرته أحزاب اشتراكية واتحادات عمالية من جميع البلدان الأوروبية والولايات المتحدة حيث تم تشكيل الأممية الثانية أعضاؤها أحزاب واتحادات عمالية وليس أفراداً بشخوصهم كما كانت الأممية الأولى . مات إنجلز في العام 1895 وحل محله في رئاسة الأممية الثانية كارل كاوتسكي رئيس الحزب الاشتراكي الألماني . الحزب الاشتراكي الألماني بقيادة كاوتسكي برهن مع الأيام أنه موئل الخيانة، خيانة الطبقة العاملة ـ في العام 1919 أيد كتائب الحرس الوطني في تحطيم جمهورية بافاريا السوفياتية واغتيال روزا لكسمبورغ ورفيقها كارل ليبكنخت القائدين البارزين في للحركة الشيوعية المتعاطمة في ألمانيا، وساهم في تسليم جمهورية فيمار &1933 إلى النازيين بقيادة هتلر ـ وكان قد دعا كاوتسكي في المؤتمر العام للأممية الثانية في بازل/سويسرا 1912 ، دعا العمال والاشتراكيين في أوروبا لبذل دمائهم رخيصة في الدفاع وحماية الأنظمة الرأسمالية الإمبريالية في بلدانهم بحجة الدفاع عن الوطن!! مثل ذلك القرار الخياني الذي نسخ قراراً كانت قد اتخذته الأممية في اجتماعها المنعقد في شتوتغارت 1907 باقتراح من لينين يدعو العمال في البلدان الرأسمالية الإمبريالية المتحاربة إلى الإنقضاض والاستيلاء على السلطة لأجل استعادة الحياة السلمية للشعوب . لم يتحمل البلاشفة بقيادة لينين ذلك القرار الخياني الداعي لاشتراك الطبقة العاملة في الحرب وخرجوا من الأممية الثانية تاركين خلفهم المناشفة حيث كان حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي في روسيا قد انشطر إلى شطرين منذ العام 1903، البلاشفة بقيادة فلاديمير لينين والمناشفة بقيادة جوليوس مارتوف . قرار الأممية الثانية&
في الحرب العالمية الأولى تراجعت جيوش روسيا القيصرية ودخلت جيوش ألمانيا الإمبراطورية حدودها الغربية حتى احتلال أوكرانيا وبلوروسيا . تفككت الجبهات الروسية فكان الجنود الروس يلقون سلاحهم ويعودون هاربين إلى بيوتهم . إذاك قامت البورجوازية الروسية الهشة &بقيادة حزب الاشتراكيين الثوريين (البورجوازي) بثورة في فبراير شباط 1917 تحت شعارات رئيسية ثلاثة كانت محل إجماع الشعب وهي : الإنسحاب من الحرب، الإصلاح الزراعي، وانتخاب جمعية تأسيسية . حكومة الاشتراكيين الثوريين المؤقتة التي استلمت السلطة تنكرت لأهداف الثورة ولم تنسحب من الحرب بل زادت مساهمتها في الأعمال الحربية رغم حالة الجبهات الروسية الرثة، وتجاهلت الإصلاح الزواعي ولم تدعُ لانتخاب الجمعية التأسيسية . تقدمت جيوش الألمان حتى حدود روسيا فنهضت جموع الشعب تطالب البلاشفة باسقاط الحكومة المؤقتة كون البلاشفة هم الحزب الوحيد القادر على ذلك . تحمل البلاشفة مسؤولياتهم الوطنية وقاموا بانتفاضة أكتوبر 1917 مع العلم أن الأممية الثانية كانت قد قررت في مؤتمرها في بازل 1912 قرارا يلزم الاشتراكيين الروس بالقيام بالثورة البورجوازية حتى النهاية نظراً لهشاشة البورجوازية الروسية . انتفض البلاشفة في أكتوبر 1917 لإنقاذ روسيا من الاحتلال الألماني وقد بات مؤكداً، ثم لإعادة عربة الثورة البورجوازية إلى سكتها . لذلك دعا لينين صبيحة الانتفاضة ـ الإنتفاضة وليس الثورة ـ سائر الأحزاب الروسية للإشتراك في حكومته لكنها لم تقبل الدعوة ظناً منها أن البلاشفة لن يصمدوا طويلاً في السلطة . مع ذلك كانت أولى المراسيم التي وقعها لينين هي مرسوم السلام ومرسوم الأرض تحقيقاً لبرنامج ثورة شباط البورجوازية، وأجرى في الشهر التالي انتخابات الجمعية التأسيسية التي صرفها بعد أول جلسة لها حيث كانت ستعيد السلطة إلى حزب الاشتراكيين الثوريين الذي ما كانت إنتفاضة أكتوبر إلا لإسقاطه وطرده من السلطة .
&