نود اولا، وقبل تناول محاور الموضوع ، الإعراب عن استنكار التفجيرات الدموية في المدن التركية والتي يذهب المدنيون ضحايا لها، هنالك العمليات الإرهابية تخدم غلاة العنصريين وتزيد انشقاق المجتمع. وذلك ايا كان المنفذون وتحت أية شعارات. بعد هذه الكلمة أشير الى انه ، عندما انفجرت انتفاضات المنطقة ، سارعت وسائل الإعلام الغربية بوصف ما جرى بـ ( الربيع العربي) في مقارنة ساذجة بربيع دول شرقي اوربا بعد انهيار جدار برلين.. وذهبوا الى حد اعتبار إسلاميي المنطقة ، والإخوان بالذات ، قوى مؤمنة بالديمقراطية وتقتدي بحزب اردوغان الموصوف عندهم بالديمقراطي.. في حينه، ومن بعد ، وفي سلسلة مقالات وفي كتابنا (رحلة مع تحولات مفصلية) عارضت كل تلك التحليلات وذلك من المنطلقات التالية:
ان ما جرى في المنطقة من إزاحة رؤوس وانتخابات، لا يكفي لبناء دول ديمقراطية علمانية، تطبق العدالة والمساواة وحقوق الإنسان. ومن اجل بناء الديمقراطية فلا بد من فترة زمنية أطول وتوفر شروط ومستلزمات عديدة. ورغم ان الدول الشرقية عاشت دهراً تحت كوابيس أنظمة شمولية، فان المجتمعات الشرقية الأوربية كانت أكثر تقدما بكثير من المجتمعات العربية، سواء في المجال الاقتصادي او في مجال دور المراة وحقوقها ، او انعدام وجود تيارات وقوى مهيمنة تسيس الدين لغسل الأدمغة، ونشر التفرقة والكراهية. كما انها كادت ان تقضي نهائيا على الأمية. اما في بلداننا العربية فهناك تسيس الدين، وانتشار الأمية والمكانة المتدنية للمرأة. وفضلاً عن كل هذا ، فقد مدت الديمقراطيات الغربية أيديها لتلك الدول لمساعدتها في تخطي الصعوبات ، في حين ان دول الربيع العربي قائمة في منطقة توترات وطغيان التيارات الإسلامية التكفيرية وبؤر الإرهاب الجهادي. وبدلاً من مساعدة الشعب الذي انتفض هنا وهناك، فان قوى الرجعية والتطرف تتدخل لتخريب المسيرة. وفيما يخص اعتبار حزب اردوغان نموذجا ايجابيا وقدوة، فان كل سياسات وممارسات حكومة اردوغان تنفي ذلك، فقد عمل خلال سنوات حكم حزب العدالة والتنمية بأسلمة المجتمع والمؤسسات، ولا سيما القضاء والجامعات، وحارب العلمانيين، وراح يروج للخلافة العثمانية وفتوحاتها، واستطاع تخريب وتدمير الكثير من التراث الكمالي. وتحولت تركيا الى مركز لأممية الإخوان المسلمين بعد سقوط حكمهم في مصر ، واتبعت تركيا سياسة معادية لمصر بسبب سقوط الإخوان. ولعبت تركيا دوراً خطيرا في تشجيع وتقوية داعش، حتى انقلب السحر على الساحر. وهي اليوم تلعب لعبتاً مزدوجة فيما يخص المهاجرين الذين فتحت لهم أبواب اوربا الغربية ليتدفقوا بحشود محشدة تجاوزت المليون وستبلغ المليونين... اردوغان فتح أبواب للضغط على الاتحاد الأوربي وأيضا لابتزازها ، طلبا لمعونات مالية كبيرة، وبأمل قبول تركيا في الاتحاد الأوربي. وإذا كانت ايران الدولة الأكثر تدخلاً في شؤون العراق والمنطقة ، فان لتركيا نصيبها أيضا في سوريا والعراق. وفي تركيا اليوم ، وكما يرد في عدة كتب غربية ، أشكال من التمييز ضد العلويين والمسيحيين .. اما الأكراد ، الذين يبلغ عددهم 15 مليونا ، فانهم عند اردوغان العدد الاكبر. ورغم ان اردوغان تفاوض قبل سنوات مع زعيم حزب العمال الكردستاني، اوجيلان، السجين عندهم ، فأعلن هذا وقف استعمال العمل المسلح ، فان اردوغان انقلب على وعوده والتزاماته عشية الانتخابات الأخيرة. ذلك لكسب أصوات غلاة العنصريين، فراح يحارب حزب العمال، الذي انجر بدوره الى ذلك الفخ. وما بين داعش وأكراد سوريا، فان اردوغان يركز على تصويب النيران ضد الأكراد ، في سياسات مرتبكة ومتناقضة وعمياء. وهنا نود ان نقول من موقع التعاطف للقوى الوطنية الكردية في سوريا، بان مصيرها هو مع القوى الديمقراطية السورية ، وعليها تعزيز العلاقات معها، وان لا تقع كأداة في مناورات النظام السوري او سواه. وخير ضمان للحقوق الكردية في سوريا هو قيام نظام ديمقراطي هناك وتقدم التجربة العراقية دروساً ثمينة في هذا الشأن.
واخيراً فان تركيا دولة إقليمية هامة وبإمكانها ومن مسؤوليتها ان تسهم بدور ايجابي فعال في المنطقة، ولو تغيرت السياسة والحكام. وبدلاً من الانغلاق في القوقعة الكردية فان مصلحة تركيا نفسها ، تلبية الحقوق القومية الأولية لشعب تجاوز عدده 15 مليون. كما عليها ألاّ تخاف حصول أكراد سوريا على درجة من الإدارة الذاتية. أما خرافة اعتدال حزب العدالة والتنمية والإخوان المسلمين في مصر وغيرها، فقد فضحتها تطورات المنطقة منذ أعوام. وفشلت تماما حسابات اوباما في الاعتماد على القوى الإخوانية ووعودها التي مزقها صعود الإخوان في مصر. الشعب التركي بحاجة الى حكم ديمقراطي علماني لا الى من يتاجرون بالدين ويبتزون الآخرين. ولنا عودة..
&