&
محاكمة التاريخ هي محاكمة غير شرعية على الإطلاق، ومع ذلك دعنا نعقد جلسة واحدة لمحاكمة صورية في محكمة غير شرعية لنستدل منها على شرعية التاريخ المطلقة دائماً وأبداً، وعلى أن التاريخ يُقرأ فقط ولا يُحاكم على الإطلاق .
الأممية الإشتراكية الثانية (1889 ـ 1916) كانت في مؤتمرها العام في بازل 1912 قد كلفت الاشتراكيين الروس (حزب لينين) بإنجاز الثورة البورجوازية حتى النهاية نظراً لهشاشة الطبقة البورجوازية في روسيا غير القادرة على إنجاز ثورتها . وعليه لم يهاجم زعماء الأممية الثانية التاريخيين مثل كاوتسكي وبليخانوف، لم يهاجموا لينين لقيامه بانتفاضة أكتوبر والإستيلاء على السلطة في روسيا في أكتوبر 1917 لكنهم هاجموه بشدة لقيامه بإعلان الثورة الإشتراكية العالمية في مارس 1919 بحجة أن الأوضاع في روسيا أولاً والأوضاع الدولية من بعد لا تسمح على الإطلاق بقيام ثورة اشتراكية عالمية ناهيك عن المجتمع الروسي المتخلف .
كان مثل هذا الهجوم على لينين والبلاشفة سيكتسب ملمحاً من الشرعية حتى وإن تحدث زعماء الأممية الثانية بعد حل أمميتهم المهترئة في العام 1916 لو أن البورجوازية الروسية قبلت التعاون مع البلاشفة في تطوير الثورة البورجوازية حتى النهاية ؛ أما وأن البورجوازية الروسية رفضت مثل هذا التعاون رفضاً قاطعاً وفضلت التعاون مع أغنياء الفلاحين (الكولاك) وعساكر القيصرية لإعلان الحرب على الشيوعيين وإبادتهم كما أعلنت دون مواربة، وهو ما لم يتوقف عنده كاوتسكي وبليخانوف وأضرابهما، فإن هجومهم على لينين بسبب إعلانه الثورة الاشتراكية في العالم في مارس آذار 1919، وليس قبل ذلك، افتقد كل مبرر . ماذا ترتب على البلاشفة أن يقدموا للبورجوازية ولم يقدموه !؟ دعا لينين جميع الأحزاب البورجوازية للإشتراك في حكومته صبيحة الانتفاضة ورفضت جميعها المشاركة بمن منهم من أيد الانتفاضة ظناً منهم أن البلاشفة لن يتمكنوا من الإحتفاظ بالسلطة طويلاً ؛ وكان أول مرسومين وقعهما لينين صبيحة الانتفاضة هما مرسوم الأرض ومرسوم السلام تحقيقاً لأهداف الثورة البورجوازية وليس الثورة الإشتراكية كما يتوهم البعض . أما انتخابات الجمعية التشريعية وكانت الهدف الرئيسي الثالث للثورة البورجوازية فقد أجريت في الشهر التالي، نوفمبر، إلا أن لينين صرف الجمعية بعد الجلسة الأولى لأنها كانت تتوجه إلى إعادة السلطة إلى حكومة الاشتراكيين الثوريين التي تنكرت لأهداف الثورة البورجوازية وقام البلاشفة بانتفاضة أكتوبر لإسقاطها .
الألمان وكانوا قد احتلوا أوكرانيا وبلوروسيا التابعتين لروسيا تعسفوا بقبول مقترحات حكومة لينين السلمية فكان ذلك سببا في رفض تروتسكي توقيع إتفاقية الصلح التي اقترحها الألمان متجاهلا تعليمات لينين، وعاد إلى موسكو يتهم لينين بالعمالة إلى الألمان ويدعو إلى إسقاطه . ماذا لو نجح تروتسكي في إسقاط لينين آنذاك !؟ أو ماذا لو نجحت البورجوازية في القضاء على البلاشفة !؟ ألن تكون النتيجة في الحالتين هي احتلال ألمانيا لروسيا واستخدام مواردها المادية والبشرية الكبيرة في الحرب وأدى ذلك بالتالي إلى انتصار ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وانتهت لأن تكون الامبراطورية الاستعمارية الوحيدة في الكرة الأرضية لعقود طويلة وربما لقرون تمتد لألف عام كما كان هدف مشروع هتلر، ولكان للعالم تاريخ آخر تغيب عنه الثورة الشيوعية وقيام الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي كما تغيب ثورة التحرر الوطني والدول المستقلة بما في ذلك الأمم المتحدة ومجلس الأمن !؟ هل بعد هذه المحاكمة غير الشرعية يمكن الاستدلال إلى أن العالم كان سيعود إلى عهود العبودية المظلمة لولا لينين وصلح برست لوتوفسك تحديداً !؟ &أو لو أن تروتسكي نجح في إسقاط لينين لدى عودته رافضاً توقيع اتفاقية الصلح !؟
&
من دلائل حيوية الحزب الشيوعي البولشفي بقيادة لينين هي أن الحزب وهو يقود أعتى المعارك ضد جيوش التدخل الأجنبية كانت تدور بين فصائلة المختلفة نقاشات حامية حول السياسات الواجبة التطبيق حال انتهاء الحرب والتي من شأنها أن تبرر التضحيات الجسام التي قدمها العمال والفلاحون دفاعاً عن الثورة الشيوعية في الحرب الأهلية وحروب التدخل . في تلك الأثناء المضطربة بسبب الانتهاء من الثورة البورجوازية قبل أن تبدأ وبدء الثورة الاشتراكية قبل أن تستحق كان من الطبيعي أن تتشتت الأفكار فماركس نفسه لم يكن يتصور أن تقوم هناك اشتراكية في أي بلاد قبل استحقاقها، قبل عبور مرحلة الرأسمالية . صحيح أنه قال باحتمالية أن تقدح شرارة الثورة الاشتراكية في روسيا التي لم تصل عتبة الرأسالية لتلتهب الثورة في كل أوروبا كما كتب في مقدمته لترجمة البيان الشيوعي إلى الروسية في العام 1882، لكنه قطعاً لم يكن يتصور أن تقوم الإشتراكية في روسيا دون غيرها من البلدان الأوروبية . قدحت شرارة الثورة الإشتراكية في روسيا وفعلاً نهضت البروليتاريا في غرب أورويا في ثورة اشتراكية عارمة غير أن ماركس ولا حتى لينين الذي ناضل طويلاً يفضح كاوتسكي وقادة الحزب الإشتراكي في ألمانيا إرتدادهم عن أسس الماركسية، لم يتصور قط أن يقوم هذا الحزب بدور خياني فاضح ويقود ثورة مضادة في ألمانيا تحطم الجمهورية السوفياتية في بافاريا 1919 والثورة الاشتراكية في العام 1923 وتصل به الخيانة إلى حد مساعدة هتلر على استلام السلطة 1933 . لم يكن هناك من خيار أمام البلاشفة في العام 1919 بعد القضاء المبرم على الطبقة البورجوازية الدينامية &الهشة التي رفعت السلاح بوجه البلاشفة إلا طريق الإشتراكية طالما أنه يستحيل قيام ثورة بورجوازية بدون بورجوازية . كان من الطبيعي إذّاك أن يحتدم النقاش حول السياسات التي سيأخذ بها الشيوعيون بعد تحرير البلاد من قوات التدخل . تلك كانت فرصة تروتسكي لتشكيل كتلته "اليسارية" داخل الحزب تنشط في معارضة لينين وخاصة في المسائل الرئيسية المطروحة كما كتبنا مؤخراً : (1) تطبيق الاشتراكية &(2) الثورة الدائمة &(3) بنية الحزب الشيوعي .
&
مع تحرير البلاد من قطعان الغزاة الأجنبية انعقد المؤتمر العام العاشر للحزب الشيوعي البولشفي في موسكو في مارس آذار 1921، وكان ذلك المؤتمر على درجة عظيمة من الأهمية حتى أعتباره المؤتمر التأسيسي للإتحاد السوفياتي . في ذلك المؤتمر التأسيسي ارتفع صوت تروتسكي وكتلته اليسارية المشكلة أصلاً من مناشفة سابقين رفاق تروتسكي وجماعات فوضوية وأفاقين من البورجوازية الوضيعة، إرتفع صوته في معارضة لينين في مختلف المسائل .
إنطلق تروتسكي في معارضته للينين من خطاب كان قد وجهه ماركس وإنجلز إلى عصبة الشيوعيين في العام 1850 يقول .. يتوجب على البروليتاريا أن تحافظ على الثورة دائمة حتى استيلاء البروليتاريا على السلطة ووسائل الإنتاج المختلفة ليس في بلد واحد فقط بل في عدة بلدان رئيسية . استناداً إلى هذا النص عارض تروتسكي لينين في مسألتين رئيسيتين هما تطبيق الاشتراكية في بلد واحد هو الاتحاد السوفياتي الممتد على عرض قارتين ويضم خمس عشرة جمهورية، وفي المفهوم الماركسي للثورة الدائمة (Permanent Revolution) .
بناء على ذلك الخطاب عارض تروتسكي على رأس كتلته "اليسارية" بناء الاشتراكية في الإتحاد السوفياتي قبل العبور بالثورة غرباً حدود بولندة ثم ألمانيا حيث النظام الرأسمالي هناك متقدم والبروليتاريا متطورة وهو ما يضمن نجاح الثورة الاشتراكية على الصعيد العالمي، حيث عندئذٍ يمكن البدء بتطبيق الاشتراكية أما قبل ذلك فيتوجب أن يعهد ببناء الاقتصاد إلى النقابات العمالية .
واجه لينين بكل حزم روح المغامرة البورجوازية الوضيعة لدى تروتسكي مشيراً إلى أن الثورة الاشتراكية السوفياتية لم تكن هي الثورة النموذج التي افترضها ماركس . البلاشفة انتفضوا في أكتوبر 1917 حماية للسيادة الوطنية وإعادة قاطرة الثورة البورجوازية إلى سكتها الصحيحة . تصدير الثورة كما اقترح تروتسكي ليس هو الثورة الدائمة التي قال بها ماركس . ماركس تحدث عن ثورة تقوم في مركز النظام الرأسمالي وليس عن ثورة بورجوازية تتحول تحت ظروف خاصة خلال سنتين فقط في حرب متصلة إلى ثورة اشتراكية . تصدير الثورة كما اقترحه تروتسكي لا يعني سوى انتحار الثورة في روسيا الأمر الذي كان سينعكس سلباً على البروليتاريا في العالم ويحط من سويتها الثورية . الثورة الدائمة كانت تعني فقط حينذاك تطوير الثورة الاشتراكية في روسيا وهو ما سينعكس إيجاباً على بروليتاريا العالم ورفع مستوى ثوريتها .
كما رأى لينين أن ترك إدارة الإقتصاد الوطني إلى النقابات العمالية كما طالب تروتسكي سيؤدي إلى عزل الحزب عن الجماهير والطبقة العاملة وهو ما يحرم الحزب من قواه الفعلية في المجتمع ويؤدي إلى هزاله فلا يعود له أثر في حركة المجتمع . كما أن النقابات ليس لديها أية خبرات &في التخطيط الاقتصادي ورسم العبور الاشتراكي الدقيق والمعقد وخاصة في بلد متخلف مثل روسيا . الحفاظ على الثورة الدائمة يقتضي أول ما يقتضي بناء الاشتراكية في بلد واحد هو الاتحاد السوفياتي وكان ذلك هو قرار المؤتمر العاشر للحزب .
وفي المؤتمر هاجم لينين بشدة انتهاج التكتلات في الحزب مثل تكتل تروتسكي اليساري مؤكداً على أن يكون عضو الحزب ملتزماً بالماركسية والنهج الماركسي فإما أن يكون العضو ماركسيا فلا ينحرف لليمين أو اليسار وإما أن ينحرف فلا يكون عضواً في الحزب . وبناء على اقتراح من لينين اتخذ المؤتمر قراراً يحرم فيه التكتلات في الحزب .
&
(يتبع)&