"نحن لا نعرف الناس، والناس لا يعرفوننا".. بمزيج من اللوعة والأسى أسر لي بهذه الكلمات صديق تونسي، متخصص حقيقي في الشؤون الليبية، وليس من أمثال أولئك المتحزبين الذين يدعوهم بعض الإعلاميين في تونس للخوض في الشؤون العربية، بلا هدى ولا كتاب منير، أي عن جهل وعدم دراية بتفاصيل الملف. وكأنه، بمجرد انخراط البعض في حزب سياسي يتحولون إلى جهابذة يفتون في كل ملفات المنطقة، رغم أن أغلبهم لا علاقة له بالشأن العام المحلي، فما بالك بالشؤون العربية والدولية، ولولا الزلزال الذي شهدته الخضراء في 14 يناير 2011 ما كان لهؤلاء أن تتجاوز معرفتهم شؤون سوق لاعبي الكرة أو الجراحات التجميلية التي أجرتها هذه الفنانة من الدرجة العاشرة أو تلك.&
وكان هذا الحديث بمناسبة إثارة ملف الصحافيين التونسيين المختطفين في ليبيا نذير القطاري وسفيان الشورابي، واللذين عجزت حكومات متعاقبة في تونس، ما بعد "الثورة"، عن إرجاعهما إلى ذويهما سالمين. وتتهم عائلتا المفقودين الدولة بالتقصير وبعدم بذل مساع حقيقية لتحريرهما أو حتى لمعرفة مصيرهما وكأنهما لا ينتميان إلى هذه البلاد التونسية وليسا من حملة جنسيتها.
ويرجع هذا الصديق سبب إخفاقنا في استجلاء مصير الصحافيين المختطفين إلى أننا، سواء تعلق الأمر بالدولة أو بمنظمات المجتمع المدني أو بالأفراد، لا نحتفظ بعلاقات متينة مع مختلف الأطراف الليبية. كما أننا لا نمتلك ورقات ضغط حقيقية وفاعلة، على غرار القوى الكبرى وحتى بعض الأمم التي لا تفوقنا حجما، ترهب الجهات المسؤولة وتغصبها على كشف الحقيقة في هذا الملف الغامض الذي أرق المضاجع وأثقل النفوس بالهموم.&
ولا يقتصر الأمر على ليبيا وحدها بل يتجاوزها إلى باقي جيران تونس الإقليميين في البلاد المغاربية وفي مختلف ربوع القارة السمراء التي تؤكد الجغرافيا ونظرية بنية الصفائح على أننا جزء من صفيحتها منذ النشأة الأولى لكوكبنا الأزرق. ويؤكد التاريخ أننا وهبنا هذه القارة إسمنا القديم في العهد الإسلامي (إفريقية) وأننا كنا من أوائل الأمم التي ربطت معها حبال الوصل منذ العصر القرطاجي الذي سبق ميلاد المسيح.&
ويصاب التونسيون مثلا بالدهشة و الإستغراب حين يتناهى إلى مسامعهم أن أحدهم زار الصحراء الغربية أو مخيمات اللاجئين الصحراويين في تندوف الجزائرية للإطلاع على الأوضاع على عين المكان، وفهم حقيقة ما يحصل عن كثب، لا بمجرد القراءة والسماع، في إطار المجتمع المدني أو غيره. رغم أن الأمر يتعلق بمرمى البصر من حدودهم، وبعمقهم الإستراتيجي، وامتدادهم الطبيعي، وأمنهم الإقليمي، خاصة وأن السياسة الخارجية بمفهومها الشامل والحديث لم تعد حكرا على الدولة وحدها، وبات بإمكان منظمات المجتمع المدني والشركات الكبرى والأفراد أن تساهم في صناعة الشبكات واللوبيات التي تدافع خارج الديار عن المصالح وتصنع ورقات الضغط.&
كما أن هناك عزوفا من رجال الأعمال التونسيين على الإستثمار في القارة الإفريقية، وقد اشتكى في هذا الإطار أحد سفرائنا في دولة كبرى في قارتنا السمراء، بمناسبة ملتقى إقليمي احتضنته تلك الدولة، من هذه "الشخصية التونسية" الميالة إلى التقوقع والإنكفاء على الذات. فقد عاينت البعثة الديبلوماسية التونسية في هذه الدولة عن كثب قدوم رجال أعمال تونسيين بنية الإستثمار ثم مسارعتهم إلى الرحيل بعد اختلاق أعذار واهية لتبرير عدم قدرتهم على التأقلم مع واقع ذلك البلد.
فالعالم بالنسبة للتونسيين هو أوروبا الغربية باعتبارها المستعمر السابق والضفة المقابلة للبحر الأبيض المتوسط الذي يرتبط به التونسيون ارتباطهم بأرضهم، وهو فضاؤهم الحيوي الحضاري والثقافي الذي ساهموا في إثرائه منذ العصر القرطاجي. والعالم أيضا هو المشرق العربي، باعتباره مهد الحضارة القرطاجية التي وفدت من سواحل فينيقيا وبلاد الشام، وهو أيضا امتدادهم القومي العروبي.
&فحتى الوعي بالولايات المتحدة الأمريكية مثلا، لم يتشكل لدى عموم التونسيين إلا من خلال علاقة هذه الأخيرة ببلدان المشرق العربي ولا يعرفونها كثقافة أو كقطب علمي وحضاري. فواشنطن في وجدان عموم التونسيين هي ذلك العدو الذي يناصر إسرائيل على حساب الحقوق الفلسطينية، وأيضا تلك القوة الغاشمة التي دمرت العراق وتنهب ثروات المنطقة.&
فـ"مالي" على سبيل المثال، وهي الجارة القريبة، يجهل التونسيون ما فيها من تناقضات وما طال قبائل الطوارق المغاربية، ساكنة الأزواد، من ظلم تاريخي تسبب فيه المستعمر الفرنسي حين ألحق الإقليم بالدولة المالية. ويجهلون أن هذا الملف تستغله الجماعات التكفيرية المتشددة للنفاذ إلى الطوارق والعرب في أزواد لاستقطابهم في صفوف هذه الجماعات التي تنشط غير بعيد عن الأراضي التونسية والتي لا علم لأجهزة استخباراتنا بتحركاتها رغم أنها شنت في السابق هجمات إرهابية على تونس إنطلاقا من تلك الربوع.
ولعله من المخجل القول أن غالبية التونسيين، وإذا استثنينا سكان المناطق الحدودية، لا يعرفون شيئا عن التركيبة العرقية والقبلية لأقرب الأقربين جغرافيا وأعني الجزائر وليبيا. وليس هناك سعي حقيقي لتجاوز هذا الخلل لربط حبال الوصل مع الفاعلين والمؤثرين في هذين البلدين جهويا ووطنيا للتجذر اكثر في التربة الإقليمية وللتعاون في شتى المجالات ولتشجيع التجارة البينية والتنسيق الأمني جهويا ومحليا خصوصا في المناطق الحدودية، خاصة إذا تم منح الحكم المحلي صلاحيات أوسع وهامشا أكبر للتحرك وربط صلات الوصل والتعاون والتوأمة مع أطراف خارجية إقليمية و دولية في قانون الجماعات المحلية الجديد.
فليس بهذه الشخصية التونسية (بمفهوم علم الإجتماع) المنغلقة تبنى العلاقات الخارجية، وليس بهذه الطريقة في العمل يمكن أن نصنع لوبياتنا التي تدافع عن مصالحنا في شتى أصقاع الأرض. وليس بهذه العقلية يمكن أن ندعم الديبلوماسية التونسية التي تبدو اليوم بحاجة إلى التطور ومواكبة التحولات والقطع مع الأساليب القديمة في العمل من خلال الإنفتاح على منظمات المجتمع المدني والتنسيق معها وكذا الجماعات المحلية والمستثمرين التونسيين في الخارج والشركات الكبرى وأيضا الأفراد من أصحاب النفوذ داخليا وخارجيا.
علينا أن نبحث في ذواتنا كتونسيين عن ذلك التاجر القرطاجي المفقود ذي الأصول الفينيقية الذي جاب أصقاع المعمورة وأنشأ المرافئ التجارية أينما حل ركبه في رحلة بحث لا تعرف الكلل والملل. فلم يترك بلاد الإغريق (جزيرة كريت) ولا جزر مالطا وصقلية ولا البلاد الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال) وكذا جنوبي فرنسا وإيطاليا ولا حتى تخوم ما تسمى اليوم الكامرون والغابون مرورا بالسواحل الأطلسية لشمال إفريقيا وساحل العاج وخليج غينيا.&
ما يطغى على شخصيتنا اليوم هو سلوك ذلك المزارع الأمازيغي، أو راعي الإبل والمواشي العربي الذي ينزع إلى التقوقع على الذات ويفر من سواحل البحار ويأبى الخروج إلى العالم الفسيح والرحب حتى وإن تعلق الأمر بمحيطه الإقليمي الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد. فلم يكن الأمازيغ أصدقاء لهذه البحار الفسيحة، ولا حتى العرب الذين أسسوا قيروانهم الأول في الشمال الإفريقي بعيدا عن نسيم المتوسط العليل، ولم تكن تمثل لهم سواحل البحار إلا حصونا ورباطات دفاعية لصد هجمات الغزاة.
فحتى بترولنا، أي زيت الزيتون، الذي نحن منتجوه الأول على مستوى العالم وجنينا من تصديره خاما السنة الماضية قرابة المليار دولار اي تقريبا واحد على عشرين من ميزانية الدولة، لم نتمكن من تعليبة وختمه بعبارة "صنع في تونس" وبيعه بسعره الحقيقي في الأسواق العالمية، لا خاما، وبسعر زهيد، كما يحصل الآن. لأننا باختصار نتقوقع ونتعامل مع أسواق تقليدية ولم نتمكن من توسيع دائرة المتعاملين في هذا القطاع، لنطور أنفسنا ونحقق بعملية حسابية بسيطة، ضعف ميزانية الدولة.
&فسعر زيت الزيتون وهو مصنع ومعلب يتضاعف مرات عديدة ليحقق أرباحا خيالية تجنيها الدول التي تحرص على شرائه خاما من عندنا، على غرار إيطاليا، حيث يتم تعليبه على أراضيها وتعيد تصديره لتوهم العالم أنه منتوجها المحلي. وهو ما يجعل زيت الزيتون قطاعا حيويا يكفي لوحده للإنفاق على الدولة التونسية دون الحاجة إلى الإقتراض أو لتسول الهبات ليذلنا هذا "الشقيق" أو ذاك "الصديق"، لكن شريطة أن نطور أنفسنا و نتحرر من القيود، ونسيح في الأرض للبحث عن أسواق جديدة ولـ"نتعارف مع الناس".
&