ناقشنا في المقال السابق، نهاية عصر، وإلى أين المستقبل؟ تصورات الإقتصادي الغربي، اناتول كاليتسكي، عن التحديات التي تعيشها الرأسمالية في المرحلة الرابعة من تاريخها، بعد أن أثار تباين الثراء غضب عولمي مخيف، بدأ بالربيع العربي وأمتد لإنتخابات الرئاسية الأمريكية، بعد أن أصبح العالم معقداً وغير متوقع إلى الحد الذي يمنع الأسواق أو الحكومات من تحقيق أهداف اجتماعية، ويفرض الحل العملي تصميم أنظمة جديدة من الضوابط والتوازنات، حتى يصبح بوسع إستمرارية التنمية المستدامة. وقد يحتاج كل ذلك لإعادة النظر في النظريات الاقتصادية التي سادت في فترة ما قبل الأزمة العولمية، أي التوقعات العقلانية، وكفاءة الأسواق، وحيادية المال. كما ينبغي على الساسة أن يعيدوا النظر في الكثير من البناء الإيديولوجي الخارق الذي أقيم على إفتراضات أصولية السوق، ليشمل ذلك إلغاء القيود التنظيمية المالية، مع إستقلال البنوك المركزية، والفصل بين السياستين النقدية والمالية، والإفتراض بأن الأسواق المتنافسة لا تحتاج إلى تدخل الحكومة لإنتاج عملية توزيع دخل مقبولة، ودفع الإبداع، وتوفير البنية الأساسية الضرورية وتسليم المنافع العامة. ومن الواضح بأن التكنولوجيات الجديدة، وعمليات إدماج المليارات من العمال الإضافيين في الأسواق العالمية، خلقت الفرص التي ينبغي لها أن تعني المزيد من الإزدهار في العقود المقبلة، ومع هذا، يحذر الساسة المسؤولون في كل مكان مواطنيهم، من ركود النمو الإقتصادي، لذلك ليس من المستغرب إذاً أن تثور ثائرة الناخبين، حيث يستشعر الناس أن قادتهم يملكون الأدوات الاقتصادية القوية الكفيلة بتعزيز مستويات المعيشة، حيث من الممكن طباعة النقود، وتوزيعها بشكل مباشر على المواطنين، ومن الممكن رفع الحد الأدنى للأجور للحد من التفاوت بين الناس، وبوسع الحكومات أن تزيد من استثماراتها في البنية الأساسية، والإبداع بتكاليف لا تتجاوز الصِفر، بل من الممكن أن يعمل التنظيم المصرفي على تشجيع الإقراض بدلاً من تقييده. ولكن نشر مثل هذه السياسات الراديكالية يعني رفض النظريات التي هيمنت على الإقتصاد منذ ثمانينيات القرن العشرين، ولتتلخص الرسالة التي تبثها الثورات الشعبوية اليوم، بأن على المسئوليين أن يمزقوا دليل اللوائح التنظيمية الذي تعودوا على العمل بها، بل وأن يعملوا على تشجيع ثورة في الفِكر الإقتصادي. وإذا رفض هولاء المسؤولون ذلك، فمن المؤكد أن "وحشا فظا" سوف يفيق أخيرا، لكي يقوم بهذه المهمة بالنيابة عنهم. وقد طرحنا السؤال التالي لعزيزي القارئ: هل هذا "الوحش"، كان داعش، الشرق أوسطي، أو لوبين، الفاشي الأوروبي، أم سيكون، المياردير الجمهوري الأمريكي، دونالد ترامب، أم الإشتراكي الديمقراطي الفقير، برني ساندرز؟&

&
ولنبدأ عزيزي القارئ أولا بأزمة التطرف في منطقة الشرق الأوسط، والممثل المرعب له في التوحش الداعشي، ولنسأل: هل فعلا يمثل داعش التطرف الإسلامي؟ أم ألصق الإسلام في وحشية داعش؟ وما سبب هذه الوحشية المقيته؟ هل هي جينات وراثية مريضة؟ أم هي تبعات ظروف سياسية ومعيشية في المعاناة من البطالة والفقر والجهل والمرض؟ أم المعضلة ثقافة إيديولوجية طائفية سقيمة؟ ومن هم وراء هذه الثقافة؟ ولنجاوب على هذه الأسئلة ليسمح لي عزيزي القارئ أن نتصفح مقال للكاتب جوشو هولاند، بمجلة دي نيشن، في شهر مارس الماضي، وبعنوان، التطرف الإسلامي ليس جذور السبب لمعضلة الإرهاب الأوربية، والنخبة الأوربية بيدها ثورة الشباب. فيعرض الكاتب في بداية المقال شرح للبروفيسور أكبر أحمد، إستاذ الدراسسات الإسلامية، بالجامعة الأمريكية بواشنطن، يقول فيه: "لو أخبرت مواطن فرنسي بأن الجيل الثالث من المهاجريين (مواطنين فرنسيين) ليس لديهم حنفية ماء، وبأن الكثير منهم لا يستطيعون القراءة، ولا يأملون في الحصول على عمل، بل ومرفوضين من المجتمع الفرنسي فلن يصدقوك وببساطة. فمثلا في مدينة مرسيليا، 30% من السكان الفرنسيين هم مهاجريين، ويعيشون في جيتو معزولة، ومعظمهم عاطليين عن العمل، ومرفوضين من المجتمع، بل لا يعتبرون جزء من نسيجه." وليتسائل البروفيسور: "أليست هذه بيئة حاضنة للتطرف والإرهاب؟"
&
كما استنتج البروفيسور اوليفر روي، من الجامعة ألأوربية في فلورنس، في كتابه عولمة الإسلام، بأن: "ما تواجهه أوروبا ليس سياسي أو ديني بل ما هو إلا تمرد شبابي. وبأن مشكة أوروبا ليس التطرف الإسلامي، بل التحدي الذي تواجهه هو "أسلمة التطرف"، بسبب البيئة الإجتماعية التي خلقت، والتي أدت لنضوج التطرف، حيث تقدر نسب البطالة بين المهاجريين المسلمين بحوالي 40%، مع نسب عالية من الفقر، ومع رواتب منخفضة نسبيا. بل وأصبح السجن مصنع لصناعة التطرف والارهاب، حيث &هناك خط أنابيب يبدأ بالبطالة والفقر، ولينتقل للجرائم الصغيرة، في الأحياء الفقيرة للمهاجرين، ولينتهي بالقضاء، ومنها للسجن، وهناك يستلم عقل الشاب من الجماعات الأرهابية في السجن، ليشكلوه على هواهم، بل قد تجد صور أسامة بن لادن معلقة هناك.
&
ولننتقل، ثانيا، إلى معضلة التطرف في الولايات المتحدة الأمريكية، ولنسأل: ما هو وضع الجيل الجديد من الشباب الأوربي الأمريكي الأبيض، اليوم، مقارنة بوضع آبائهم في الجيل الماضي، أي في عالم العولمة وتباين الثراء الجديد؟ وقد ناقشت ذلك افتتاحية صحيفة هفنجتون بوست، في مقالها، عن المفارقة بين الشباب والمسنين على ضفتي المحيط الأطلسي، وبعنوان فجوة الجيل الجديد، لتقول: برزت ظاهرة جديدة على ضفتي المحيط الأطلسي، تصويت الشباب دائما مغاير للمسنين، نتيجة أختلاف الدخل والتعليم والجنس، وهناك أسباب مهمة لذلك، حيث أنهم يعيشون حياة مغايرة، فماضيهم متباين، بل ومستقبلهم مختلف. فمثلا إنتهت الحرب الباردة قبل أن يولد بعضهم، أو كان الباقي أطفالا، لذلك لم تعد كلمة الإشتراكية مخيفة كما كانت من قبل، وأن كانت تعني بناء مجتمع يتعاطف فيها الجميع، ويهتم فيها بالبيئة، فلتكن. نعم كانت بعض التجارب الإشتراكية سابقا فاشلة، ولكن تجربة اليوم تختلف عن تجربة الماضي، وأخطاء تلك التجارب لا تعبر عن تجارب المستقبل. والفئة الوسطى المسنة الأمريكية والأوربية عاشت حياة جيده، فحينما تخرجوا كانت وظائف قيمة تنتظرهم، وكان سؤالهم ماذا عليهم أن يختاروا من عمل؟ وليس لمتى سيعيشوا مع والديهم قبل أن يحصلوا على وظيفة؟ بل كان ذلك الجيل يضمن أمن الوظيفة، وليتزوج مبكرا، ويشتري بيتا، بل وبيتا صيفيا، وفي النهاية يتقاعد بأمان معيشي معقول، بل توقعوا في ذلك الوقت أن تكون أوضاعهم أفضل من آبائهم.&
&
بينما شباب اليوم يعيشون العكس، بفقدان ضمان العمل، مع ديون الدراسة الجامعية المتراكمة، والتي تستمر عادة لعشرين عاما، وبارباح فائدة عالية على هذه الديون. أما شراء السكن، فحلم لا يمكن تحقيقه، وطبعا ليس هناك مجال للتفكير في التقاعد، وبإختصار ينظر الشباب اليوم للعالم من خلال عدالة الأجيال. وأطفال الطبقة الوسطى العليا قد ينجحون، لأنهم سيرثون الثراء من أبائهم، مع أنهم قد لا يعجبهم هذا النوع من الأعتماد على الغير، ولكن يكرهون &أكثر البدائل المتوفرة، من خلال البدء من الأول، ومعاناة طريق، ما سمي في الماضي بالطبقة الوسطى، وكأنهم لم يناضلوا بالعمل الجاد، مع الساعات الطويلة في الدراسة، ويبدعوا في المدارس، وعملوا كل شيء في حياتهم بطريقة متكاملة. كما أن هناك شعور مر بين الشباب بالظلم بسرقة اللعبة الإقتصادية، ومن خلال المصرفيين الذين سببوا الأزمة المالية، والبطئ الإقتصادي، ومع ذلك ينتهون بعلاوات طائلة، وبدون محاسبة أحد لأخطائهم. في حين وعد السياسيون بأن الإصلاح سيجلب الإزدهار، وفعلا نجحوا في ذلك، ولكن حققوه فقط لي 1% في القمة، إما البقية، ال 99%، ومع الشباب، حصلوا على فقط إنعدام الأمن المعيشي. ليعرف اليوم واقعنا اللحظي ثلاثة حقائق، الظلم الإجتماعي بشكل غير مسبوق، تباين ثراء فاحش، وفقدان الثقة في النخبة المثقفة. ولا توجد أية إجابة لكل تلك السلبيات، ولذا فقدت أحزاب يسار ويمين الوسط دعمها الشعبي في أوروبا، بينما تعيش أمريكا وضع غريب. فبينما يتنافس مرشحو الجمهوررين على الديماغوجية، وبتصورات غير مدروسة، والتي ستزيد من سوء الأوضاع، يطرح المرشحان الديمقراطيان إصلاحات، لو وافق عليهم الكونجرس، ستؤدي لتغيرات حقيقية. ويبدو بأن الشباب وجد الحل في برني ساندرز، وقد عبر عن ذلك روبرت بولن، بقوله بأن برنامج ساندرز يدعو لرعاية صحية حكومية شاملة، ورفع قيمة العمل من 7.5 إلى 15 دولار في الساعة، مع جامعات حكومية مجانية، وضرائب على مضاربات معاملات الأسهم في الوول ستريت، ومعارضة الإتفاقيات التجارية، كالنفتا، التي أضعفت رواتب العمالة ألأمريكية، مع الاستثمار في الطاقة النظيفة، وإعادة بناء البنية التحتية المتهترة، وأنظمة صارمة ضد تعاملات الوول ستريت لتشجيع الإستثمارات المنتجة، وخلق الوظائف، بينما لا لرأسمالية كازينوهات القمار. ويبقى السؤال: إلى أين مستقبل العالم، بل وإلى أين مستقبل الشرق الأوسط؟ فهل سنتعظ قبل فوات الأوان؟ &ولنا لقاء. &
&
د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان