المعاناة الطويلة تلتهم الجدران الفاصلة بين المنطقتين الحمراء والخضراء. المهمّشون يجتازون الأسوار العالية ويعبرون حدود الخوف واليأس لملاقاة ذئاب السلطة وجها لوجه. الإستهتار السياسي الطويل لم يحترم قواعد التدجين. كان هذا السياسي ـ الإلعوبة، كما كان دوما، تلميذا فاشلا في دورات التدريب الإقليمية والدولية. ذئابنا بلا قواعد. كما ملبسهم ومأكلهم وسلوكهم وتصريحاتهم وبياناتهم وتقلّباتهم في الولاء وفي الإنتماء حسب فصول السنة وحسب التسعيرة المتداولة في سوق السياسة المحلّية. في لحظة المواجهة ينتهي دور المُلقّن وتضيع نصوص التلقين في زحام المجهول. ستكون الذاكرة مشحونة فقط، بالمخاوف على المصير وعلى الأرصدة المسروقة. أيّن المفرّ لحظتها؟. في طريق المطار أم على أبواب السفارات؟.&

الأكثرُ غباء هو الأكثرُ خوفا. الجرأة تتعلّق بالوعي حتّى وإن كان مزيفا. الدهاء والذكاء توأمان. طينة الأغبياء الخائفون الذين وُجدوا يومها في مطار بغداد والذين فرّوا وخرجوا من "مؤخرة" السفارة الأمريكية هاربين بجلودهم، هم من طينة عظماء الحُفر والمجاري. عرباتهم المحصّنة والمكيّفة والمضلّلة، لم تكن ولن تكون أبدا سوى حواجز لأوهام خلقتهم وخلقوها وصدّقوها. كان الحرف الأول من كلمة "عراق"، يراقبهم بالعين الفاحصة. عين الأمّ التي تراقب أطفالها كلّ يوم ويدّق قلبها على صدى دقّات قلوبهم لحين يكبرون. صورة الطفولة الأولى هي الأكثر إلتصاقا بالذاكرة.
الأغبياء العاقّون لم يفهموا أبسط الدروس الأولى في الإنتماء. فَضحوا أنفسهم بالخوف المشهود. لم يكن غضب الجموع عارما ومخيفا لتلك الدرجة، لكنّ خوف السياسي ـ الدمّية يسكن أعماقه ويُهزمه داخليا. هَلعهُ يُوقظ فيه غريزة البقاء ويدفعه مباشرة الى الفرار والهروب من منطقة الخطر الحقيقي أو المحتمل. الخطرالحقيقي غير المرئي بعد، أو ذاك المحتمل حدوثه عاجلا أم آجلا. الأغبياء الذين لم يفكروا بالمواجهة مع الجمهور السلمي بأغلبيته، ويصرّحوا بموقفهم إن كان لهم ثمّة موقف من الأزمات الطاحنة في البلاد. فرادى أو جماعات وكتل سياسية. لجان وقادة وزعماء ونواب أمسوا في ساعة من الزمن، ينتمون لفصيلة الفقريات الهاربة أو لفصيلة اللافقريات السابحة. على الأرجح وبالخبرة الطويلة، هم ينتمون لصنف الزواحف.
التلقين عدوّ التفكير. التلقين وسادة العقل كي يتكأ عليها قبيل رقاده الطويل. والترديد والأجوبة الخشبية الجاهزة وإغتصاب المعاني من الكلام وتجويف المفاهيم الحديثة لبناء الدولة وتفريغ جسم المجتمع من قيمه وذاكرته وتاريخه وماضيه وحاضره ومستقبله، هي كلّها مجتمعة ليست إعتداء على اللغة وعلى الوطن وعلى الخارطة وعلى التاريخ وعلى الوجود الإجتماعي فحسب، وإنّما هي بمثابة إنتزاع للروح من الجسد. الجنون والمقبرة أو الثورة. هي كلّ ما كانت تقودنا اليها مشاريع الطوائف والأحزاب الحاكمة.&
امّا الأقلّ غباء من صنف البرمائيات، فلا زالوا يعتقدون بإيجاد مخرج لهم ضمن التوازنات القائمة وفي إطار مشاورات الغرف المغلقة وفي إسناد الأسياد وقوة المليشيات وعصابات الجريمة المنظمة. الأقلّ غباء، هُم الآن الشريحة الأوسع سياسيا في دائرة الحكّام. تلك التي تحيا بين البرّ وبين الماء. وتلك التي تنام بعين واحدة. النقص في خبرتهم لليابسة وللبراري وللغابات وأدغالها وأهوالها، ولغضب الطبيعة ولإنفجار البراكين ولصوت الرعد ولهبوب العواصف العاتية. هو كالنقص في خبرتهم في الماء وفي البحر والإبحار.
من بين الأقلّ غباء ثمّة قلائل وأقليّات تتراوح وتتأرجح وتتردّد. منهم من يخشى ضياع "الصاية والصرماية". ومنهم من إرتبط وجوده بالفساد ونهب المال العام وتخريب الإقتصاد الوطني وبالمسؤولية عن إزهاق الأرواح وضياع مدن ومناطق وإستباحة وتهجير سكّانها. ومنهم أيضا، من يَنتظر التوجيهات الحزبية والتعليمات الداخلية والخارجية للتصرّف الأمثل للخروج على الأقلّ بالصاية والسمعة وشيء من ماء الوجه.
الغافلون المغفلون لا يدركون حقائق ما يجري، ولا يعترفون بها كحقائق. كائنات المستنقع وحشراته وهوامه لن تختفي إلّا بتجفيفه. آن الأوان لدفن جثّة المحاصصة الطائفية والأثنية وإحراقها لتغدو دخانا بعيدا عن أرض العراق. ودقّت ساعة الفعل والعمل لإيقاف نزيف هذي البلاد الجريحة. إنّها اللحظة الفاصلة بين تاريخين. تاريخ النهب والفساد والإستهتار وإنعدام الشعور بالمسؤولية، وتاريخ أمل سيسطّره لنا شباب العراق الغاضب.
الأذكياء بدون غضب، ينادون على أهل البحر لإنقاذ أهل البرّ. يشكّون بأنفسهم ويشكّكون بصفوفهم ويدورون في حلقة من الدروشة والتسقيط المتبادل، ليستأنفوا الدورة التقليدية القديمة في القيل والقال والتنظير الأكاديمي المُبتسر لكلاسيكيات لم يُحسنوا فهمها وإستيعابها وتحويلها الى فعل مؤثر وسلوك يومي. الأذكياء والأغبياء والأشرار والأخيار إشتركوا معا بإدخالنا في النفق المسدود. الحلول ستبقى مستعصية. ومخارج الظلمة لا وجود لها مع هذه النخب السياسية الحاكمة. الغباء المسترجل بلا فحولة، هو الذي رَسمَ النهاية بأقلام أسياده، والذكاء المخصي كان يتبعه أو يكاد صاغرا. الرهان على الغضب. ها هو يلوّح بقبضته ويدقّ على الأبواب.
&
باريس
&