مدافعون عن هيبة الدولة التي سقطت وهي تقاتل تنظيما إرهابياً، ومدافعون عن الجياع باعتبارهم أصحاب الحق بالثورة ضد مجلس النواب والعملية السياسية، هكذا ينقسم الموقف حول اقتحام المتظاهرين لمبنى مجلس النواب.

ومهما بدا الرأيان بنوايا حسنة، فإنهما يعانيان من مشكلة كبيرة، هي أن ما يعتمدان عليه ليس مبرراً. فهيبة الدولة المنفصلة عن كرامة الناس وحياتهم ليست هيبة، خصوصا وإن الهيبة تضيع حين تعجز الدولة، أما الجوع والفقر، فليس هو العامل الرئيس وراء ما جرى يوم السبت المنصرم فلن يكن الأمر اندفاعة شعبية مجردة من الولاء السياسي، بل عملية منظمة وقفت وراءها كلمة سر "الانتفاضة" التي أطلقها السيد مقتدى الصدر في مؤتمر الصحفي قبيل الاقتحام.&
كلتا المقولتين تبدوان تبريريتين يخفيان خلفهما نقطة أساسية هي الاهداف الكبرى التي تحرك كلا الجانبين. هيبة الدولة حديثها فوقي، ليس فقط لأنها مفقودة بفعل انقسام العراق بطريقة تجعل كل حزب فرحاً بما لديه، وأغلب العراق خارج عن سيطرة بغداد بسبب وجود داعش أو فرض الأمر الواقع من قبل اقليم كردستان، بل أيضا لأننا هنا نتحدث عن مستوى من الاستهتار الحكومي يستدعي احيانا التفكير بضرورة قلب الامور وانهاء الجماعات السياسية الحاكمة. بعضنا يريد أن يستخدم الأمر كذريعة لمواجهة ما يجري، بينما الثورة حين تحصل يسقط الكلام عن هيبة الدولة، بل لا يمكن التعامل معها على محمل الجد. أما من يقول من جاء عبر صناديق الاقتراع لا يخرج الا بها، فهذا ايضا قليل القيمة، لأن الصناديق ليست ديمقراطية بفعل هيمنة الاحزاب وطبيعة النظام الانتخابي الذي يجعل صاحب الالفين صوت عضوا وغيره خارج قوس، هو ليس نظاما انتخابيا ديمقراطيا بل يكرس الحاكمين، بما في ذلك من يقود التظاهرات الان.&
أما الجوع فليس السبب، بل هو حراك تقوم بها جماعة سياسية مستفيدة من حالة الظلم الاجتماعي، وتوظفه بطريقتها، وشريحة من المثقفين يرون ذلك فعلا ضروريا للتغيير، مثلما هو الامر في كل محطات العراق الثورية، التي انتقلت من التحرر من الاستعمار الى مواجهة الطبقية الى القضية الفلسطينية الى الوحدة العربية ثم الى المظلومية الشيعية وقبل سنتين الى التهميش السني. هذه المقولات هي العنوان الذي يخفي رغبة ما خلفه، وهذه الرغبة بالعادة تسعى للحصول على الحكم بالسيطرة على الشارع ومن ثم السيطرة على نبض الانتخابات. لنذر الحديث عن الجياع جانبا، فكل الثورات خلفها جياع، حتى تلك التي يرفضها من يدافع عما يجري اليوم. هناك رغبة بالتغيير، هي التي يجب أن تكون صريحة، وهذه الرغبة هي ما يجب أن نحللها ونراجعها وليس الجياع، لأننا عارفون لا ثورة ستنصف الفقراء وإن كان خلفها ابو ذر الغفاري الذي صنفه الشيوعيون أول اشتراكي في الاسلام!
وبالمحصلة، إن المشروع الثوري الذي اندفع بعيداً لاسقاط مبنى مجلس النواب لم يستمر كثورة. الخطوة توقفت حين شعر الواقفون وراءها بأن الارادة الدولية تحفظت تجاهها منذ أن اعلن الاتحاد الاوربي استنكاره، فبدا اتمام الأمر مهمة شبه مستحيلة تحتاج الى مسؤولية كاملة لم يستعد لها من قاد المشهد. ومشروع هيبة الدولة اتضح أنه غير موجود لأن الدولة في العراق كتل سياسية وليست دولة، والمشهد العراقي كشف عن غياب القدرة على صناعة قراره الا اذا ما وافقت الجماعات المحكومة بتوجهاتها القومية والمذهبية. يحصل شيئا لتنسحب بعيداً، وتمارس ابتزازها المعهود، وكأنها لا صلة لها بأي مسؤولية قانونية وسياسية تجاه الخراب الجاري في البلد منذ ان تشكل مجلس الحكم.
ومن جانب آخر أغلق الفعل الثوري خيار الاصلاح وبقي مرددا بين أن يذهب الى النهايات البعيدة، أو يصمت الى الابد ويقبل بشروط اللعبة نزولا عن رغبة المحاصصة بصيغتها التي طرحها الحكيم أو صياغات أخرى. لأننا هنا أمام إرادة زعيم وليس كما يحاول من يحاول أن يجعلها إرادة شعبية. ولقد تسبب فساد منظومة النهب بكسر هيبة الدولة واعطاء المبررات تلو المبررات لممارسة الوصاية عليها، وان فشل ما جرى السبت، فان الارادات ستفرض مجددا، لأن المذنبين دائما ضعفا مهما بدو ماكرين.
سيقال أين نقف بالضبط، مع هذا أو ذاك؟ ربما سيسهل الجواب لو تعاملنا بعين أن الصراع الان بين مشروعين سلطويين، يفترض ان ننظر له بعين الناقد، فلا كلام الجياع سينقذ الجياع، ولا اندفاع هيبة الدولة ينقذ الدولة... الأمر رهن بقدرتنا على صناعة البدائل المفقودة حتى الان!
&