في بداياتها ، نهاية 2010،ومطلع 2011،أثارت "ثورة الياسمين" التونسية إعجاب العالم.فقد نقلت وسائل الإعلام صورا حية لشابات وشبان واجهوا الرصاص بالزهور وبالإبتسامات وبالأيادي العارية وبشعارات تدل على سلوك متحضر ،وعلى نضج ثقافي وسياسي. غير أن الصورة المشرقة لتلك الثورة التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي بعد 23 سنة من الحكم بواسطة حزب واحد أوحد سرعان ما تعتمت وتشوهت وآعتراها الذبول .ويعود ذلك إلى أن راشد الغنوشي الذي صرح بعد عودته من المنفى أنه سينذر ما تبقى له من العمر للتعبد واتلتهجد في جامع الزيتونة،لم يلبث أن آقتحم المشهد السياسي بقوة مسخرا المساجد والدعاة المشارقة المتطرفين لخدمة أغراض حركته .وقد ساعد ذلك على بروز سريع للتيار السلفي المتشدّد الذي حوّل تونس المعروفة باعتدالها وانفتاحها ورفض شعبها للتطرف والعنف إلى قاعدة للجهاد والعنف والإرهاب.وفخورة بالنجاح الشعبي الذي حققته في ظرف أشهر قليلة،لم تعد حركة النهضة تتردد في تقسيم التونسيين الى مؤمنين"،و"كافرين" .أما التنظيمات اليسارية فقد توهمت انه بامكان الشعارات الجميلة التي كانت ترفعها في تظاهراتها ان تقنع التونسيين بان الاستبداد قد ولّى والى الابد.ومهملة الشعب ،وغير عارفة بطبائع مجتمع تعوّد على العيش في ظل القمع والتخلف والتقاليد الباليةآكتفت هذه التنظيمات بالمقولات النظرية المبهمة ،وبالمقابلات الصحفية الحماسية وبالجدل العقيم حول مشاكل لا علاقة لها بالواقع.والحقيقة أن حركة النهضة هي التي جرتها الى مثل هذا الجدل حتى تغرقها فيه فلا تستطيع الإقتراب من الشعب ولا إقناعه بأفكارها.بل من المؤكد أن انسياقها له جعل قسما كبيرا من التونسيين ينظرون اليها بآرتياب وشك وخوف. بالَاضافة الى كل هذا تفرقت هذه القوى الى أحزاب وفرق صغيرة كل واحدة منها يدعي امتلاك الحقيقة والقدرة على تسيير شؤون الدولة الجديدة . ولم تخلو ممارسات البعض من هذه الأحزاب التي تكاثرت كالفطر بعد انهيار نظام بن علي من السذاجة ومن المثالية السياسية الصبيانية .

&
ثم جاءت انتخابات 23 أكتوبر 2011 لتكشف أوراق اللعبة كاملة ،وتفضح ما كان مستورا أو متسترا عليه .فقد أحرزت النهضة على الأغلبية في المجلس التأسييسي المكلف بإعداد الدستور .أما الأحزاب المعارضة لها فقد وجدت نفسها مهمشة وضعيفة وبلا قدرة على منافسة الغول الجديد بسبب الإنقسامات التي تشقها من الداخل وبسبب ضبابية رؤيتها السياسية وجهلها شبه التام لمقتضيات الواقع ولحقائق التاريخ .ورغم الإنتصار الذي حققته فإن حركة النهضة واصلت سياستها التي تعتمد المبطن والظاهر لتضليل خصومهاولتضليل الرأي العام الداخلي والخارجي .ففي الظاهر هي واصلت خطابها المطمئن وكلامها المعسول عن الديمقراطية وتأكيدها على ضرورة أحترام الحريات العامة والخاصة واعدة الفقراء بجنة على الأرض .لكن في الخفاء ، شرعت هذه الحركة في انتهاج خطة للسيطرة على الدولة وعلى مؤسساتها بهدف إحكام قبضتها على البلاد والعباد .لذا راحت تشجع نمو وتوسع الحركات السلفية والجهادية المتطرفة خصوصا في أوساط الشباب الجامعي والتلمذي .وفي البداية آنحصرت نشاطات السلفيين في المدن والقرى الداخلية غير أنها لم تلبث أن آكتسحت العاصمة والمدن الكبيرة لتقوم بعمليات آستعراض للقوة في الشوارع والساحات العامة متعمدة آستفزاز المناهضين لها خصوصا المثقفين والفنانين كما حدث في الجزائر في بداية "سنوات الجمر" .ولم تكن حركة النهضة تتردد في الاستعانة بالسلفيين المتشددين لكي تصبح السياسة التي تعمل على فرضها أمرا واقعا ليس بالإمكان رفضه أو معارضته. وفخورا بالإنتصارات الباهرة شرع الغنوشي يتصرف وكأنه القيم وحده على شؤون الدولة فلا قرار ا يمكن أن يتم البت فيه إلا بمشورته وموافقته !غير أن آغتيال المناضلين شكري بلعيد ومحمد البراهمي أيقظ المجتمع المدني فخرجت جماهير غفيرة الى الشوارع للمطالبة برحيل حكومة الترويكا بزعامة حركة النهضة.وقد تحقق جزء من ذلك الهدف غير أن النهضة واصلت الاعيبها في العلن والخفاء .
&
وبعد الهزيمة التي منيت بها حركته في آنتخابات خريف 2014 عاد الغنوشي للخداع من جديد .ومستغلا الإنقاسامات والصراعات التي تعصف بحزب نداء تونس،وأيضا ضعف الأحزاب الأخرى ، صعد الى المنابر هنا وهناك ،وظهر في مختلف القنوات الوطنية والأجنبية ليعلن وقد آرتدى بدلة "إفرنجية" داكنة الزرقة على غرار رجب اردوغان أن حركة النهضة ستعمل على فصل الدعوي عن السياسي لتصبح حزبا سياسيا شبيها بالاحزاب الديقراطية المسيحية في البلدان الأوروبية.وفي مؤتمرها الأخير الذي بدا شبيها بمظاهره الإحتفالية الضخمة ،بمؤتمرات الأحزاب الفاشية والشمولية،آنتخب الغنوشي من جديد رئيسا للحركة التي يدير شؤونها السياسية والمالية منذ ما يزيد على الأربعين عاما،مؤكدا مرة أخرى على ضرورة فصل الدعوي عن السياسي.والحقيقة أنه يفعل ذلك للمناورة والخداع فقط لا غير.فالثعبان يظل ثعبانا حتى ولو غير جلده.والغنوشي يعلم جيدا أن النهضة ستظل متمسكة بالدعوي .فقواعدها سلفية متشددة.والمساجد في قبضة انصارها.وهي تسيطر على الجمعيات الدينية التي تكاثرت بعد سقوط نظام بن علي .وهي لا تزال تعتبر كل ما تورطوا في اعمال ارهابية سوى في الماضي ام في الحاضر "شهداء عند ربّهم يرزقون".ومعنى كل هذا أن الهدف الأساسي للغنوشي هو أن يضمن عودة قوية للنهضة في السنوات القادمة لتتحكم في المشهد السياسي سواء في الإنتخابات البلدية التي ستجرى في ربيع العام القادم،أو في الإنتخابات التشريعية في نهاية عام 2019.وأظن أنه سيفلح في ذلك ما دامت الأحزاب والقوى السياسية المناهضة للنهضة تعاني من التمزق والتشتت وضبابية الرؤية!