هل كتب على التاريخ العربي أن يرتدّ دائما الى الوراء؟

كثيرا ما طرحت هذا السؤال على نفسي خصوصا في أوقات الأزمات والمحن مثلما هو الحال الآن.ولعلّ كثيرين طرحوا على أنفسهم نفس هذا السؤال.وأعتقد أن هذا الأمر-أي طرح السؤال المذكور-أمر مشروع.وثمّة أدلّة كثيرة بإمكانها أن تثبت ذلك.
ففي فترة "حركة النهضة" التي بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر،ونضجت في النصف الأوّل من القرن العشرين ،كان العرب مشرقا ومغربا يتطلّعون الى التقدّم ،والى الرقيّ ببلدانهم ومجتمعاتهم الى حضارة العصر.وكانت نخبهم التي دَرَست في أوروبا تأمل أن تصبح المدن والعواصم العربيّة شبيهة بباريس وروما،ولندن،وبرلين،وغيرها من مدن اوروبا الزاهية.مدن وعواصم تتمتّع بجميع مرافق الحياة من شوارع نظيفة،وساحات واسعة ،وحدائق عامة،ومتاحف،ودور للاوبرا،ومسارح ،وقاعات سينما،ووسائل نقل عصريّة وغير ذلك من المرافق العامة التي يحتاجها الناس ليخففوا عن أنفسهم متاعب الحياة،وضيقها.وكان قاسم أمين في مصر ،والطاهر الحداد في تونس،وجميل صدقي الزهاوي في العراق،وآخرون في بلاد الشام ،وفي المغرب وفي الجزائر ينادون بضرورة تحرير المرأة من قيود الماضي إذ من دون ذلك لن تتمكن المجتمعات العربيّة من تحقيق طموحاتها في التقدم والرقيّ ،والخروج من الجهالة والانحطاط.وكان خير الدين باشا التونسي،وعبد الرحمان الكواكبي،وعلي عبد الرازق،والشيخ عبد العزيز الثعالبي يرون في فصل الدين عن الدولة شرطا أساسيّا لأصلاح الأوضاع السياسية الفاسدة بسبب قرون مديدة من الاستبداد والطغيان .وكان د.طه حسين يطالب بأن يكون العرب شركاء في الموروث الحضاري الذي خلّفه الاغريق والرومان.وكان المثقفون ،والكتّاب ،والشعراء الذين ينتقدون في كتاباتهم التحجّر والتزمّت ،يواجهون يشجاعة كبيرة خصومهم من المحافظين وألأصوليين.وكانت النخب تسارع بالاجابة على الأسئلة الحارقة التي تطرح بشأن العديد من القضايا الشائكة في مختلف المجالات،الدينيّة والسياسيّة منها بالخصوص.لذلك كانت المعارك الفكريّة لا تنقطع عن الاشتعال باعثة الحيوية في حياة ثقافية كانت جامدة ومكبّلة بالمحرّمات والقيود.وعندما خطوا الخطوات الأولى في القرن العشرين،كان العرب شبه متيقّنين من أنهم سيكونون أمّة لا شأن عظيم.أمة تتمتع بقدرات هائلة تخيف أعداءها ،والطامعين في ثرواتها.لكن فجأة تحطّمت كلّ الآمال والأحلام.ومن جديد عاد اليأس ليخيّم على القلوب والنفوس،وبرز للعيان ما يمكن أن يوحي بأن التاريخ العربي محكوم عليه بأن يسير دائما الى الوراء!
والذي ينظر الآن الى العرب يراهم قطعانا هائمة على وجهها ،لا تعرف ما سيحدث لها في حاضرها،ولا في مستقبلها القريب أو البعيد.وأما النخب فقد تشتّتت ،وفقدت البوصلة ،وباتت عاجزة عن مواكبة ما يحدث.ومستغلّة هذه الاستقالة،وهذا الفراغ الرهيب،برزت "مافيات ثقافيّة" لتلعب أدوارا قذرة أعادت الجمود الى الثقافة العربيّة،وأفسدتها كما تفسد الدودة الثمرة.وقد ازدادت الأوضاع سوءا بسبب آنتشار الحركات ألأصولية في جميع أنحاء العالم العربي.ويسرعة آنقضّت هذه الحركات على المجتمعات العربية مشرقا ومغربا ،وراحت تنهشها نهش الذئاب الجائعة للفريسة .وهكذا آنطفأت المجادلات الحامية حول التقدم والرقي،والنهوض بالتعليم ،وتحرير المرأة ،وفصل الدين عن الدولة،وغير ذلك.ومكانها قامت مطارحات صفراء تطالب بفرض الحجاب،والنقاب على النساء،وحرمانهنّ من التعليم ،ومن العمل.كما تطالب بمراقبة ما يكتب وما يقال حتى في المجالس الحميمية،وبمنع الموسيقى والغناء،وكلّ وسائل الترفيه .وباتت الفتاوي الصفراء التي يطلقها المتاجرون بالدين،والجاهلون بأصوله وتعاليمه،تتدفق يوميا مثل السيول الجارفة.وكأن لم يكن هذا كافيا ،بل أصبحت الحركات الأصولية تطالب الناس بأن يرفعوا الرايات السوداء ليكونوا في حداد دائم اذ أن الضحك والانبساط والفرح ،وكلّ هذا "رجس من عمل الشيطان".وها المدن والعواصم العربية التي كانت زاهية في يوم من الأيام،وفيها كان يحلو العيش،تصبح موحشة،كئيبة كما لو أنها مقابر هائلة الاتساع.وها الناس يمشون فيها مرتبكين،حائرين .فلكأنهم فقدوا العقل والذاكرة.وها سياط "داعش" وأمثالها من الحركات ألأصولية تجلد ظهورهم لكي يعودوا الى الوراء ….الى الوراء دائما لأن حياتهم لا معنى لها الاّ في الماضي وحده!فقط ...لاغير!وأما الأجيال الشابة فقد آنقطعت عن قراءة الكتب الجادة التي تنير العقول وتبهج النفوس،لتنصرف الى قراءة كتب تتحدث عن "عذاب القبر"،وتحرض على الجهاد والتكفير،والعنف الأعمى،وتشرّع الجريمة والارهاب بآسم الدين.لذلك يظهر البعض من شباب اليوم على شاشات القنوات التلفزيونية وهم يلوّحون بالسكاكين والسيوف المضرجة بدماء ضحاياهم من المسلمين،ومن غير المسلمين!وتختفي مراهقات ليظهرن بعد ذلك وهنّ ممتلئات البطون من "جهاد النكاح"!
وفي غياب خطاب معارض يقرأ الواقع في تفاصيله،لم تعد الجماهير العريضة تجد غذاء ثقافيا وفكريا يقيها شرّ الخطاب الرسمي المحنّط الي تجلده به يوميّا الأنظمة الفاسدة المستبدة، غير الخطاب المحنّط الآخر الذي يروّجه الأصوليون والسلفيّون الذين تكاثروا بسبب ما يمكن أن نسميّه ب" الجهل المعمّم" .من هنا ندرك لماذا أصبح تجّار البلاغة الرخيصة "فقهاء وعلماء زمننا،ولماذا بات مؤلّفو كتب السّحر والشعوذة ،ومبتدعو الفتاوي الصّفراء مراجع أساسيّة بالنسبة لرجل الشارع العربي.كما بإمكاننا أن ندرك أيضا سبب سهولة آنقضاض الحركات والتيّارات الأصولية والظّلامية على ثورات ما أصبح يسمّى ب"الربيع العربي" ،مقصية القوى التنويرية والتحديثيّة ،معتمدة في ذلك على خطاب دينيّ متخلّف،وعلى نزعات شعبوية شبيهة إلى حدّ كبير بتلك النّزعات التي أنتهجتها الحركات النازية والفاشية التي ظهرت في أوروبا في الثلاثينات من القرن الماضي...
وفي هذه الأيّام التي نعيش فيها فوضى ربيع عربيّ كاذب،يتساءل الكثيرون من الذين آستيقظوا من أوهامهم عن ألأسباب التي أدّت إلى آنحراف الثورات التي شهدتها بلدان عربية قبل أربعة أعوام عن مسارها،مغيّبة مطالبها الأساسيّة المتمثّلة في الحرّيّة والكرامة والعدالة الإجتماعيّة،وسامحة لقوى الظلام والتخلّف بمصادرتها لصالحها ،ولصالح أهدافها التي ترمي إلى إعادة مجتمعات عربيّة كانت قد عاشت فترات تحديث،وتنوير وإصلاح ،وفصل بين الدين والدولة مثلما هو الحال بالنسبة لمصر وتونس،إلى ما يتنافى مع أحلامها ومطامحها في التقدم والرقيّ..وهم على حقّ قي طرح أسئلة كهذه.ففي البداية بدت تلك الثورات التي كانت الأجيال الشابّة الغاضبة على أنظمة فاسدة ومتسلّطة ،قوّتها الأساسيّة،وكأنها ترمي إلى تحريك عجلة التاريخ الغائصة في الوحل، وإلى إعادة الإشراقة التنويرية والتحدثية الى مجتمعات تعيش الركود والفساد السياسي ،ومُهَدّدة بأزمات إجتماعية وآقتصادية خانقة.لكن حال سقوط الأنظمة القديمة ،برزت على المشهد قوى تجذب الى الوراء،وتقسّم شعب هذا البلد أو ذاك من بلدان الربيع العريي إلى "كفّار ومسلمين"،وتحرّض على العنف والتطرف والفتنة بآسم ما تسميه ب"نصرة الإسلام"،وشانّة معارك ساخنة ضدّ قوى التحديث والتنوير والإصلاح التي لعبت دورا أساسيا في الثورات المذكورة.فما الذي حدث لكي تتحوّل ألأنوار إلى ظلمات؟! .وكيف يمكن أن تتحول "رجّة الرغبة في التغيير" كما سماها البعض الى آنتكاسة مرعبة على جميع المستوايات ،مغيّبة العرب من جديد في ماض أسود،وحارمة إياهم من ان يكونوا فاعلين في واقعهم ،وفي تاريخهم.وها "الثورات" التي آستبشروا بها،وهللوا لها تفضي الى كوابيس مرعبة و الى حروب مذهبية وعقائدية متسببة في تفتت أجهزة الدولة الوطنية،وفاتحة الأبواب واسعة امام التدخّل الأجنبي بآسم فرض الديمقراطية وحقوق الانسان في هذه المرة.وقد عاش العرب خلال القرن العشرين رجات عنيفة تعكس الرغبة في التغيير والتقدم.غير أن الفشل كان مآلها جميعا تماما مثلما هو الحال بالنسبة لرجة ما سمي ب"الربيع العربي".وربما يعود ذلك الى أن العرب لا يقرؤون التاريخ قراءة صحيحة وايجابية ولا يعرفون كيف يستخلصون منه الدروس والعبر كما فعل واحد من آخر عباقرتهم،أعني بذلك آبن خلدون.فالتاريخ عندهم لا يزال محكوما بماض يبدو شبيها بقبر مظلم يلتهم كل آلتماعة تضيء الحاضر،وتبشر بمستقبل أفضل. وهو ماض واحد أحد.لذلك تقوم الحركات الأصولية بتدمير وتخريب وتقويض كل ما يتنافى ،ويختلف معه لأنه زمن أبدي ،وبالتالي فإن الخلاص منه مستحيل .وفي مثل هذا الوضع يجد العرب أنفسهم عاجزين عن القيام ب"حوار مع التاريخ" بحسب عبارة الفيلسوف الالماني غادمير الذي يقول بإن الاختلاف في التقاليد وفي المسلمات الذي نراه حين نقرأ نصوصا تاريخية وجدت لقرون خلت،يظهر أمام اعيننا معاييرنا وتخيراتنا الثقافية مما يقودنا الى توسيع وتعميق فهمنا لحياتنا الحاضرة.وعلى سبيل المثال إن انا تناولت كتابا لأفلاطون ،وقرأته بعناية ،فإنني لا أوسّع فهمي لأفلاطون فحسب،بل وأكون أيضا قد آكتشفت تحيزاتي وأهوائي ،وجعلها جليّة أمامي.وربما اتمكن من البدء في تغييرها من خلال هذا الحوار ،أو كما يسمّيه غادمير ب"آنصهار آلآفاق".ومادام العرب عاجزين عن "التحاور مع التاريخ" في مفهومه الواسع والعميق ،فإنهم سيظلون سجناء ماضيهم ،وبالتالي محرومين من آمتلاك ألأدوات الفعلية لفهم واقعهم وتغييره نحو لأفضل لكي يتمكنوا في النهاية من التأقلم مع العالم ،ومع ما يشهده من تحولات كبيرة أم صغيرة...
&