&

هناك فكرة قالت بها ولا تزال دول عدة، وفي مقدمتها دولة الامارات العربية المتحدة، وهي أن الارهاب لاوطن ولا دين ولا حدود له، ولكن الكثير من دول العالم تتعامل مع هذه الفكرة باعتبارها فرضية زائفة أو تحليل لتمييع الظاهرة الارهابية وتفكيك المسؤوليات والهروب منها، رغم أن هذا التعامل هو أحد منزلقات الأزمة الراهنة، فالحقيقة أن هذه الفكرة هي السبيل الوحيد للتعامل بشكل أكثر جدية في التصدي للظاهرة الارهابية من دون انزلاق إلى فخ صراعات الأديان والحضارات، أو انسياق وراء دعوات الاحتراب الطائفي والمذهبي، التي يطلقها بعض المنظرين أو الساسة أو الدول التي تستغل الارهاب في تصفية الحسابات وتحقيق طموحاتها التوسعية القادمة من سراديب التاريخ.

أقول هذا الكلام لأن المذبحة الارهابية البشعة التي ارتكبها مواطن أمريكي من أصول أفغانية مؤخراً في أورلاندو هي نموذج لخطر الارهاب الكامن، الذي يتجاوز بمراحل خطر الوجود المادي للظاهرة الارهابية وتجمعها في مناطق بعينها، فالخطر الكامن صعب الاكتشاف ويستحيل تقريبا التنبؤ بتصرفاته وخططه وأنماط تفكيره.

ما يحتاجه العالم في مواجهة مثل هذه الجرائم الارهابية هو مزيد من التماسك والتنسيق والتعاون، حيث يجب أن يقتنع الجميع أن الجرائم الارهابية التي يرتكبها أفراد أو تنظيمات محسوبة على الدين الاسلامي أو غيره لا تمثل مطلقاً هذا الدين السمح، وإلا فإننا نفتح على العالم أجمع باب الشرور، فالاسلام بطيفه الديموجرافي الهائل لا يمكن أن ينطق باسمه ويعبر عنه أفراد موتورون وتنظيمات تدرك الدول الكبرى من يقف ورائها ومن أسهم في تأسيسها وأي هدف يريد من ورائها!!

وإذا كانت الجرائم الارهابية هو بمنزلة هدايا مجانية لمتطرفي التيار اليميني في الدول الغربية، فإن تصريحات هؤلاء المتطرفين السياسيين أيضاً هي هدايا مجانية لتنظيمات الارهاب كي تستغلها وتجلب بها ومن خلالها اتباع ومناصرين ومتعاطفين جدد في داخل هذه الدول ذاتها، ناهيك عن خارجها من بقاع العالم المختلفة، وهنا يقع المعتدلون شرقاً وغرباً بين تطرفين، وتقع عليهم مسؤوليات جسام لانقاذ العالم من مهالك التطرف ونزق المتطرفين والارهابيين.

عندما يقتل عشرات الأمريكيين في أورلاندو علي يد الارهاب، فإن الرسالة هنا تستحق الانتباه، فداعش وغيره من تنظيمات الارهاب لا يجب أن تترك لهم فرصة لتحديد هوامش تحركاتهم المقبلة ووضع الجميع تحت ضغط الخوف والقلق، وما يمكن أن يسفر عنه ذلك من تصرفات واندفاعات متعجلة قد تتماهى مع أجندات هؤلاء الارهابيين وتحقق أهدافهم في إشعال صراع حضاري عالمي تقتات عليه هذه التنظيمات وتسعى إليه بقوة وتنتعش في وجوده.

الرسالة الخطأ في جريمة أورلاندو أن ينسبها البعض إلى الاسلام وأن يعتبر هذا الدين الحنيف مسؤولاً عنها، فانحراف واحد من ملايين المسلمين الأمريكيين على سبيل المثال لا يعني أن هناك إشكالية في جوهر التعاليم الدينية، فالأمور يجب أن تأخذ حقها من الموضوعية والانصاف إذا كان العالم يسعى إلى فهم حقيقي لما يحدث، بدلا من الانسياق وراء الأفكار الموتورة وتسليم زمام القيادة للمتطرفين والارهابيين ودعاة صراع الحضارات والصدامات الثقافية الدامية.

ولاشك أن تجارب التاريخ تحفل بما يكفي من تجارب كي يدرك الجميع أن التطرف والعنف والرغبة في القتل وسفك الدماء لا علاقة لها بالأديان ولا الحضارات، ولكنها تعبير جلي عن عدوانية فردية احياناً، وترجمة لمخططات تآمرية ترتدي لباس الدين وتتخذ منه ستاراً لتنفيذ مؤامرات تضيق أو تتسع جغرافياً وجيواستراتيجياً بحسب نوايا وأهداف مخططيها، والمؤكد أن تنظيم "داعش" هو خير برهان على هذه المؤامرات، إذ لا يمكن الاستسلام لفكرة وجود هذا التنظيم كنبت شيطان، لاسيما أنه بات يسيطر على مساحات أراض شاسعة في العراق وسوريا ويدير أزمة في ليبيا ويتطلع إلى وجود ارهابي مؤثر في اليمن وغيرها من المناطق، ثم بعد هذا كله يمتلك قادة التنظيم من الوقت ما يدبرون به لتنفيذ عملية إجرامية في الداخل الأمريكي ويجندون عنصراً يخضع لرقابة مكتب التحقيقات الفيدرالي منذ عام 2013؟

بطبيعة الحال، لست من أنصار التهويل ولا التهوين من قدرات هذه التنظيمات الارهابية، ولست كذلك من مروجي نظرية المؤامرة في فهم ما يدور من حولنا، ولكني أحاول طرح تساؤلات موضوعية تستحق الرد عليها بقدر من المنطقية التحليلية، وصولاً إلى ما بدأت به مقالي وهو ضرورة الاقتناع بأن الارهاب ظاهرة تستحق تكاتفاً عالمياً جدياً لا

يتخلى عنه أحد ولا يتراجع من بين صفوفه البعض، فالخطر يطال الجميع ويداهم الشعوب كافة في أي وقت وأي مكان.

من دون استراتيجية عالمية جادة للتعامل مع الارهاب وأسبابه الحقيقة وعوامل تمدده وانتشاره مثل ما يتم التعامل مع ظواهر كونية أخرى خطرة مثل الاحتباس الحراري وغير ذلك سنظل جميعا ندور حلقة مفرغة ونلقي كرة اللهب ونتقاذها من دون العثور على مخارج وحلول كفيلة بتقويض واستئصال هذه الظاهرة البشعة.

&