&&الوعي العراقي والمبالغة والمُراءاة

&

(صيت الغنى ولا صيت الفقر) مثل تافه بائس يختزنه الوعي العراقي، وتفتخر الشخصية العراقية بترديده وتطبيقه في حياتها اليومية أكثر من النصوص الدينية نفسها. والصيت باللهجة العراقية يعني السُمعة باللغة الفصحى، أما فكرة المثل فهي أن من الأفضل للمَرء أن يأخذ الآخرون عنه فكرة كونه غني ويَملك المال بدلاً من أن يعلموا بأنه فقير ولا يملك المال حتى لو كانت هذه هي الحقيقة. ورغم ما يُبطن هذا المَثل مِن دعوة للكذب والمُراءاة، إلا أنه كما قلنا مُتداول ومَرغوب ومَعمول به عراقياً، بل إن من يَرفض العَمل به قد يكون حالة نشاز بالمُجتمع العراقي بسَبب طبيعة الشَخصية العراقية المُتعالية والمشبَعة بالغرور، والتي جُبِلت على أستِصغار وإحتِقار الفقير والمُعاق. لذا فاللاوعي العراقي المُصاب بهستيريا العَظمة أنتَج لوَعيه هذا المَثل العراقي بإمتياز، والذي قلّما نجد له شَبيهاً في تُراث وثقافات الشُعوب الأخرى. اللهم بإستِثناء تلك المُصابة بنفس العُقد والأمراض.

خلال إحدى زياراتي الأخيرة للعراق فوجئت بأعداد السيارات الضخمة الفورويل التي تمتليء بها شوارع المُدن العراقية، رغم عَدم قدرتها على استيعاب هذا العَدد الذي يَفوق عَددها في شوارع المُدن الأوروبية، وعندما سألت إن كان الغرض وراء شراء واستخدام الناس لهذه النوع من السيارات هو الطبيعة الجغرافية الجبلية للمدينة التي كنت فيها جائني الجواب بالنفي، اذ تبين أن هذه الظاهرة منتشرة بكل مدن العراق رغم شوارعها البائسة والهدف هو التباهي والتظاهر الزائف أمام الناس، فإذا كان أخوك أو أحد اقاربك أو حتى جيرانك يملك من هذه النوع وكانت سيارتك بسيطة على كد الحال فعيب ويجب أن تشتري مثلها حتى لو اضطررت لإستدانة المال! البعض الآخر يستدين لمجرد الظهور بالصالونات الثقافية واللقائات المجتمعية للطبقة الراقية، وليتمكن من إرتداء ماركات عالمية والجلوس بكافتيريات مشهورة والى آخره من المظاهر الكذابة! بل إني التقيت عند مجيئي لألمانيا بأشخاص لم يكونوا قد حصلوا على تصاريح إقامة ويعيشون في مراكز اللجوء منذ سنوات، لكنهم رغم ذلك باقين ومُتحملين العيش بمستوى أقل بكثير من الذي قد يعيشونه إن عادوا للعراق، وعندما سألتهم لمَ لا تعودون؟ لم تكن إجابتهم هي أن الوضع العام والمُجتمع هنا يُعجبهم لكونه مثلاً إنساني أو متمدن وما الى ذلك، بل أجابوا بأنهم لو عادوا دون أن يكونوا قد أرسلوا مالاً لشراء بيت، أو دون أن تكون معهم سيارة مرسـيدس أو بي أم دبليو فسيُعيب عليهم الناس بل وحتى أهلهم ذلك! وسيتسائلون لمَ فشلوا هُم بما نجح فيه آخرون! لذا يضطرون للبقاء والعمل بالأسود أملا بتحقيق هذا الأمل الذي قد ينقضي وتضيع أعمارهم دون أن يحققوه!

بالتالي كثيراً ما نلتقي في المجتمع العراقي بأشخاص يستدينون كي يظهروا بغير مظهرهم الحقيقي، ورغم أن المسؤولية الرئيسية بهذا الخراب المجتمعي لا تقع فقط على البيت والعائلة والأهل الذي يحشون وعي الفرد منذ الصغر بهذه المفاهيم والقيم البالية، إلا أن المجتمع ككل يتحمل بدوره جزئاً لا يستهان به من هذه المسؤولية، فهو قد يجبر المرء أحيانا على إتباع هذا السلوك المَرَضي حتى وإن لم يكن قد تربى عليه في البيت والعائلة. وبالتالي فإن عملية الإصلاح تحتاج الى علاج وإصلاح مجتمعي عام وليس علاج لحالة او شريحة مجتمعية هنا وهناك.&

&