&

كثيرا مانردد في احاديثنا وكتاباتنا ان العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة كقانون اقتصادي من اقتصاديات السوق ويسري هذا القانون مجتمعيا ايضا ، وها نحن نرى حالات وطباع وأخلاق سيئة للغاية لم نعتدّ عليها من قبل وننفر من التآلف والتكيّف معها ، حالات نتقزز من ظهورها في اوساط مجتمعنا بسبب تسيّد الجهل وطغيانه وظهور المفاسد في القيم والأخلاق والضمائر وتفشي المظاهر القبلية والعرقية وطغيانها على المدنية والنزوع الى التديّن والمراءاة الخادعة والتمظهر بالإيمان الكاذب اذ لم نر منه سوى قشره كظواهر الحجاب والخمار واطلاق اللحى وارتداء الكساء السلفي القصير لدى الرجال الى غير ذلك من الخزعبلات الشكلية التي لاتؤنس ناظرا ولا تثري عقلا طامحا للارتقاء.

ومقولة الخبير المصرفيّ الانجليزي والمستشار المالي للمملكة السيد " توماس غريشام " بشأن طغيان العملة السيئة قد قالها امام ملكة انجلترا كقانون اقتصادي غير ان هذا القانون لم يعد يقتصر على عالم المال والأعمال فقط بل انسحب الامر على السياسة والدين والعلاقات المجتمعية التي لم نألفها قبلا ونرى أتباعها والممرغين في أوحالها والعائشين في سفاسفها بعد ان يطردوا النخب النزيهة كما يطرد النحاسُ الذهبَ والنفائس الأخرى ويسود الخراب بدل العمران والجشع والطمع بدلا من القناعة والرضا والاكتفاء والتلوّن الحربائي مكان الثبات على المبادئ واتخاذ الموقف المشرّف النبيل بدلا من القفز هنا وهناك وكأنهم قرود تتقافز على الثمار وتتنقل بخفة البهلوان من شجرة الى أخرى أكثر وفرةً في الجَنيّ.

هنا في بقاعنا التي اتسخت كثيرا يتسيّد الرعاع بدل الشجاع والبغاة عوضا عن البُناة والسافلون واللصوص ومنتفعو الأزمات وأمراء الحروب ومثيرو النعرات بكلّ أشكالها الوسخة والجهّال وذوو العمائم وطيلسان الدين ورؤساء العشائر وزعماء الميليشيات وممثلو الاثنيات أيا كان مذهبها اسلاميا او مسيحيا او اية مَلّةٍ اخرى ويتحكمون بكل مفاصل الاقتصاد والثقافة وهياكل الدولة والسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وينكفئ الطاهر ويبرز العاهر ، يختفي النزيه ويظهر السفيه ويستعرض عضلاته الوقحُ ويُصفّى داعي السلام الوديع السمح.

ليس الامر يقتصر على السياسة فحسب فالفن والأدب والإبداع غاب عنا وتطاول فينا الغثّ والهزيل من الشعر والنثر والتشكيل والسينما والمسرح وبقية الفنون الإبداعية وأصبح رعاتها وفنانوها وأدباؤها ذيولا للزمر الحاكمة الطويلة اليد والسطوة والجاه والإثراء غير المشروع ولم تسلم حتى جوائز الإبداع والتكريم من سطوة الأغبياء ومحدودي الوعيّ والقاصرين الضيقي الافق ليختاروا الفائزين وفقا لمعايير معوجّة يقودها المال وتحركها بوصلات الرشى بعقربها المائل او المعوجّ الذي يتجه نحو شميم البترودولار والمحسوبية والوساطات والمعايير المنكسرة.

قنوات فضائية ومؤسسات ثقافية واتحادات ونقابات وصحافة وإعلام وجرائد يومية معظمها ان لم نقل كلها اصبحت دمى واضحوكة وخزعبلات بيد هذا السارق وذاك المارق تحركها أحزاب وتيارات اثنيه وقومية وتمويل مالي اغلبه من منافذ السحت الحرام ومن خارج الحدود تغدقها دول ومؤسسات كبرى لتنفيذ أجنداتها ووصاياها بكل صلف ومكابرة أمام الرأي العام العالمي وضد الأوطان المبتلية بالأزمات والسكان المغلوب على أمرهم.

مدن وحواضر كانت حتى الامس القريب مقصدا لمحبّي الجمال ومرتعا للسواح ومهوى الافئدة المتعطشة لسحر الشرق تتهاوى وتسقط بيد الإغراب والأجناب من شتات الشرق الآسيوي ومنبوذي العائشين المهمشين المنعزلين في أحياء الغرب المنطوية على نفسها والتي تأبى الاندماج والتطبيع مع الحضارة الراقية والمدنية الحديثة جاؤوا ليفسدوا ويخربوا ويلطخوا بغداد من قذاراتهم ويهدموا حلب وتدمر والرقّة والموصل بفؤوسهم ويشعلوا اليانع الحاضر والباهر والمؤنس قبل اليابس ويفرضوا قناعاتهم المريضة وأعرافهم المهيضة.

ومثلما تطرد العملة البخيسة العملة النفيسة تنهار القيم العليا ويخسأ الجمال والرقي امام نماء القبح والإذلال والتخلف والسوءات ويتآكل المجتمع شيئا فشيئا حتى يُمحى وتذروه رياح الزفرة والوخم الخانق ، فقانون " غريشام " يصحّ إدراجه وإسقاطه على كل مناحي الحياة وتفرعاتها وأنشطتها وفي ايّ زمان ومكان حتى لو كنّا نعيش الان في مطلع الالفية الثالثة وفي عصر العولمة فالسيد " غريشام " قد عاصر القرون الوسطى في اوروبا وغزاة اليوم ومخرّبو بلادنا وطباعنا هم ايضا يستمدون جلّ تفكيرهم من السلف الغابر والفقه الأعرج العاثر فالماضي ليس مثل ماكنا ننعته بانه الحدث الذي مضى وانقضى فهو اليوم يصحّ ان نسميه ما بقي وسيبقى.

هنا في زمكاننا الوغد يسود الجاهل ويختفي العاقل ، يُحارب المبدع ويعلو صوت المقذع ، يوارى الشرفاء ويقود السفهاء والقيمة البشرية النفيسة تتخلف الى الوراء وتزيحها الغوغاء في خانة النسيان ولو اقتضى الامر تعمل على تهميشها

وركنها على الرفوف المنسية وربما تصفيتها قتلا او تهجيرا وإبعادا وتهديدا ليخلو الجو لعتاة البذاءة وحثالات القوم ان تعمّ وتتسع وتقود وتفرض رأيها عنوةً واستكبارا.

ففي مثل هذه الاوضاع الكارثية يشعر المرء الواعي ان لامكان له بين ظهراني الكتلة الهائلة من العابثين بمصائر الناس فيلزم بيته عندما لايقوى على حزم حقائبه ليرحل وتخونه الجرأة على الفرار والهجرة ويتجنب المصادمة مع تلك الكتل الهائلة من الصخور البشرية التي لاينفجر ماؤها.

وكثيرا ماتصيب الانسان السامي الواسع الافق نوبات الغصص والاكتئاب والانطواء حينما يرى بأم عينه فقدان المركزية وتراخي الحكمة وهوان القانون وانكسار العدل وشيوع الفوضى وسيادة الأغبياء على العقلاء وطغيان العادات السيئة على مكارم الخلق الرفيع ويحل قانون الغاب والقوة وفرض الأشكال الشائنة على الرعية ويبدأ الفساد بكل أشكاله في الشيوع بحيث تعجز ان ترى واحدا تأمل منه خيرا او نفعا ؛ فلا تجد الاّ اليأس ملاذا والانكفاء ملجأً واستكانةً فلا احد من كل هذه الأكوام من الأنقاض البشرية من ينبض في دمه نبض الضمير الحيّ وتجري في عروقه دماء النبلاء الزرق مثلما ألمحَ الشاعر دعبل الخزاعي حين يرى حشودا من القادة الجوف ولكن لن يُبصر فيهم أملا ولا رجاء في بيتـيه التاليين :

ما أكثرَ الناسَ بل ما أقلّهمو ------ والله يـعلـمُ أني لـم أقـلْ فـنَـدا

اني لأفتح عيني حين أفتحها ----- على كثيرٍ ولكنْ لا أرى أحدا

هكذا يبدو الحال المائل والعاقل الزائل حينما تختفي الزمرة الصالحة الشريفة البانية ؛ وتكشّر عن انيابها الزمرة الطالحة الفاسدة لتصفية المجتمع من كل ماهو جميل ومشرق وإخلائه من كل شيء باهر ، وقديما قال أرسطو بان كل شيء آيلٌ للخراب إقتصادا وأخلاقا وعقائدَ في مقولته الخالدة " كما يطرد أشرارُ الناسِ أخيارَهم " لسبب بسيط جدا وهو ان العملة الرديئة لا رصيد متين لها لأنها بخسة ( coppers ) حينما نتندّر بضحالة قيمتها مثلما أشرار وأغبياء السادة الحاكمين يفتقدون رصيد المحبة والاعتبار والتقدير في قلوب ونفوس العامة من الناس.

&

[email protected]