&

3 من 3

إستغربت كثيرا لردود أفعال القراء حول الجزئين السابقين من مقالي هذا.فكعادتهم دخلوا في متاهة خلافاتهم الدينية والعقائدية مرة أخرى، ونسوا أن يبدو رأيهم بالمقال ويشاركوني الرأي وكان هذا هو هدفي بالأساس، لكن سامحهم الله فقد تباروا وتجادلوا في خلافات عقيمة لا طائل من ورائها سوى تأجيج الكراهية والحقد، فتطرقوا الى كل شيء مابين المفاضلة على الاديان الى تكفير بعضهم لبعض، ماعدا إبداء الرأي حول المقال، فأصبح المنبر ساحة لتبادل الإتهامات والتكفير والتجريح بين الأمم والأديان وهذا يتعارض تماما مع دعوتي للإصلاح وتهدئة النفوس وبيان حكم الله فيما نشهده اليوم من جرائم كبرى ترتكب ضد الإنسان بغض النظر عن دينه وإنتمائه القومي.

على كل حال لايغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ويشفع لي بأني أديت رسالتي داعيا المولى عز وجل أن يمن علي بأجر الصواب، وأن يغفر لي إن اخطات، وأشهد الله أنني ما أردت إلا الإصلاح وإعلاء كلمة الله وأنا بكامل إيماني بوحدانية الرب وبكتبه ورسله أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله،فإن زللت في شيء فإني أستغفر ربي وأتوب اليه." قال الله تعالى:وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (البقرة).

أما بعد..

فإن الله تبارك وتعالى قال في كتابه الكريم" إنما المؤمنون أخوة" (الحجرات).وقال عز من قائل" وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ "(الحجرات).نتبين من هذه الآية بأنه حتى من بين المؤمنين توجد هناك فئة باغية. وعلى مدى تاريخ الإسلام ظهرت طوائف عديدة تبغي الواحدة على الأخرى،ولكن على مدى ذلك التاريخ أيضا لم يكن هناك من يحتكم الى العقل ويصلح بين تلك الطوائف،بل شارك الجميع في الحرب وإمتشق كل سيفه للقتال،وأقلهم إلتزم بأضعف الإيمان وهو السكوت،حتى إصطبغ تاريخنا بلون الدم.فلو كان هناك مصلحون حقا، لما وصل أمر هذه الأمة الى ماهو عليه اليوم من الضعف والإستكانة والتقهقر الى الوراء.حتى العلماء وهم ورثة الأنبياء كان أكثرهم هواه مع السلطان،ولذلك ففي غياب عقل الأمة وهم العلماء إستمرت المشاحنات والحروب والإقتتال من أجل الجاه والسلطان وليس لإعلاء كلمة الله،فغلب من غلب وخسر من خسر.

مع كل ذلك فإنني أظن بأن الخلافات المذهبية التي بدأت منذ فجر الإسلام كانت أفظع وأخطر على المسلمين من كل الحروب التي خاضوها،ومازلنا ندفع ضريبتها الباهضة الى يومنا هذا، فحروب المسلمين والقتال الدائر بينهم على مر التاريخ لم يكن من بين أسبابها،تغيير القبلة أو إنقاص الفرائض، ولا الخلاف على ثوابت الدين أو تغيير أحكامه،بل كانت بسبب الخلاف المذهبي الذي قسم الأمة وأضعفها،ولا أعرف ما فائدتنا نحن اليوم إذا كان عليا أولى بخلافة الرسول أو أن عمرا كان أحق بها؟. "وماتشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين"( التكوير)..هما الآن بين يدي ربهم سيفصل بينهما بالقسط والعدل، وليس من العقل أن يكون أحدنا محاميا وآخر مدعيا عاما،فالأمر قد قضي"وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"( البقرة).

&ثم أن عليا تولى الخلافة ولم يحرم منها،لكنها أغتصبت منه ظلما،وهذا لم يكن لا ذنب عمر ولا أبو بكر ولا عثمان،بل هو ذنب الذين خذلوه وسلموها لسلطان المال. أنا أجل عليا وأراه أفضل بمليون مرة من معاوية بن أبي سفيان، فهو علي وما أدراك من علي، يكفيه فخرا أن الله كرم وجهه، ويكفيه زهوا إنتسابه لبيت النبوة وأنه إبن عم رسول الله وسيفه البتار،وهو بمنزلة هارون من موسى، وهو والد الشهيد الأعظم الحسين حفيد رسول الله..أما معاوية فهو إبن آكلة الأكباد وحفيدها هو السكير العربيد يزيد ابن معاوية أمير المؤمنين زورا وبهتانا،ومع ذلك فإنني أرى بأن عليا لو ترك أمر الخلافة وإنصرف عن السياسة ومفاسدها، الى الفقه والكتابة والتفسير ونشر العلم بين الأمة الإسلامية، لكان ترك لنا تراثا عظيما لايقدر بثمن تبيانا لكل شيء، ألم يكن هو باب العلم ووصي رسول الله؟.لو كان فعل ذلك لما ضل أحد من المسلمين، ولا نشأت كل هذه الفرق والمذاهب،ولما تجرأ أحد من بعده أن يكذب على رسول الله، ولما حدثت كل هذه الحروب تحت يافطة الفرقة الناجية، ولما تفرق العلماء من بعده بين من يوالي السلطان ومن يحاربه،وكان الدين سيكون أوضح مما نقله إلينا فقهاء السلطان وحاشية السوء المحيطين بالخلفاء.

فيما عدا الخلفاء الراشدين الأربعة وخامسهم عمر بن عبدالعزيز، وزد عليهم عددا لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة ممن كانوا قوامين صوامين،من غيرهم من الخلفاء لم يغرق نفسه في الملاهي وحب النساء والشهوات،بل وحتى الغلمان؟؟.من منهم لم يسرق من بيت مال المسلمين وينفقه على الشعراء وشراء الجاريات الجيد الحسان؟؟.من منهم رعى حرمة الله في عباده ومن منهم لم يقتل المسلمين؟.إقرأ كتب التاريخ ستجد فيها ملاحم كل هؤلاء وغزواتهم لمخادع النساء والجواري.

وصف الباريء عز شأنه المسلمين بقوله" كنتم خير أمة أخرجت للناس،تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"(آل عمران)، فهل نحن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر حتى نكون خير كل الأمم؟؟. أنا لا أشك للحظة واحدة بأن المسلمين هم المقصودون بهذا الوصف البديع،حاشا أن أكفر بآيات الله،ولكن أي من المسلمين هم خير الأمة؟.هذا هو السؤال، وأرى جوابه بتكملة الآية وهم" الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.

إنهم: "الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ( آل عمران)..

إِنَّهم:"الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.( الأنفال).

إنهم:"الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ.( فصلت).

إنهم:" وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِناً وَ يتيما وأَسِيراً إنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلاَ شُكُوراً (الإنسان).

إنهم:" والْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.(البقرة).

إنهم:" الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ.(المؤمنون).

إنهم:" الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.(البقرة).

إنهم:" الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَن وُدًا.(مريم).

إنهم:"الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ.(الأنعام).

هؤلاء هم خيار الأمة التي أخرجت للناس كما وصفهم الله بكتابه العزيز، وليس من يعيش في ضلال ويلوون أعناق الآيات خدمة لأهداف خبيثة ما أنزل الله بها من سلطان.

حين وقعت جريمة دهس عدد من الناس بمدينة نيس الفرنسية، سارع الشيخ والداعية الإسلامي يوسف القرضاوي للتنديد بتلك الجريمة مع أن فاعله كان من أحد أتباع فكره الديني المتطرف وينتمي الى تنظيم داعش، لكن حين وقعت مذبحة كبرى في كرادة بغداد لم ينبس الشيخ وداعية الاسلام ببنت الشفة ولم يرف له جفن ولم تأخذه الرحمة والحمية للتنديد بها، لأنه ظن وبئس ما ظن، أن الضحايا كانوا من الشيعة، فهل الشيعة هم غير مسلمين؟؟!!..لقد قال تعالى"أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ".(البقرة).

في ستينات القرن الماضي كانت خطب جميع المساجد والجوامع تدعو الناس الى الاعمال الصالحة والى التعامل بالمعروف،حتى أقام بين ظهرانينا أقوام من اليهود والمسيحيين بكل طمأنينة وأمان، واليوم ضاقت بهم أوطانهم بسبب التطرف الديني الأعمى وبفضل فتاوى شيوخ العصر الإرهابي هذا، وكانت المساجد تضج بالمصليين حينذاك وتكثر في رمضان خيراتهم وتفيض رغم الفقر العام آنذاك، ودعوني أسألكم" بالله عليكم كم من المصلين يدخلون المساجد لأداء صلاة الفجر هذه الأيام؟ كم مسلما من بين مليار ومائتي مليون مسلم يدفع زكاة ماله كما أمره الله؟ لوكان المسلمون يدفعون زكاتهم لما ظل فقير أو جائع بين هذه الأمة. ولو حافظ الأئمة على الأمانة في خطبهم لما خرج الإرهاب من بين أيديهم ومن بين أرجلهم..

في الختام أعود لأؤكد بأن الله خص المسلمين بقوله تعالى" بأنهم خبر أمة أخرجت للناس" ولكن المقصود بهم هم أولئك الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر،" ألا إن حزب الله همُ المفلحون " (المجادلة). وأدعو الباريء جل شأنه وعظم سلطانه أن يكثر الخير في هذه الأمة وأن يرحم عباده بهديهم الى سواء السبيل وأن يهبنا من لدنه العقل المستنير الذي يرجعنا الى الإسلام الصحيح، إسلام المحبة والتسامح والعفو والرحمة." وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".(آل عمران).

ومسك الختام أستشهد بقوله سبحانه وتعالى،بسم الله الرحمن الرحيم"وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ".صدق الله العظيم (الإسراء).