ماذا بقي وماذا سيبقى من "موسم اصيلة" بعد ثمانية وثلاثين عاما؟ بقي وسيبقى امران. الاول قدرة الموسم، وهي قدرة محمد بن عيسى الأمين العام لمنتدى اصيلة ورئيس البلدية، على مواكبة الاحداث والتجدّد وطرح المواضيع الساخنة. يطرح الموسم هذه المواضيع بغض النظر عما اذا كان هناك من يستطيع معالجتها والبحث فيها. المهمّ هو تجروء موسم اصيلة على اثارة قضايا شائكة، بعضها مرتبط بالاحداث الراهنة مثل "الوحدة الترابية والامن الوطني: أي مآل لافريقيا" وبعضها الآخر في أساس هذه الاحداث مثل "الحكامة او الحوكمة ومنظمات المجتمع المدني" او"النخب العربية والإسلامية: الدين والدولة".

اما الامر الآخر الباقي والذي سيبقى من اصيلة، فهو متعلّق باصيلة نفسها. في اصيلة نكتشف البعد الإنساني والحضاري للموسم الذي يبقى احد الانجازات المغربية.

مع مرور السنوات، تغيّرت اصيلة ولكن من دون ان تتغيّر. من قرية للصيادين على المحيط الأطلسي، غير بعيدة كثيرا عن طنجه، هناك الآن بلدة بكلّ معنى الكلمة تعج بالناس في فصل الصيف. هناك استثمار في ثقافة الحياة في اصيلة. هناك شعور بان البلدة تتقدم على كل الصعد. يظل البعد الإنساني البعد الأهمّ لما تحقّق في البلدة ومن خلالها. هناك حتّى تحسن في اذواق الموجودين في شوارع اصيلة وفي شكل الوجوه، التي صارت وجوها باسمة في معظمها، وطريقة التصرّف والاهتمام بالزائر في بلدة بدأ يتعود أهلها على تطوير ذوقهم، بما في ذلك في المجال الفني، من نحت ورسم وموسيقى.

لم تعد اصيلة حدائق وأماكن عامة فرحة فحسب، بل صارت أيضا ساحات فيها منحوتات لفنانين مغاربة وحفلات موسيقية ذات مستوى رفيع. صارت اصيلة ترمز باختصار الى احد جوانب النهضة المغربية في عهد الملك محمّد السادس وهي نهضة تتجاوز البنى التحتية الى الانسان. الانسان المغربي اوّلا. خدمة الانسان المغربي هدف بحد ذاته في المملكة التي يعتبر فيها محمد السادس ان الحرب على الفقر والتخلف، تبقى اهمّ الحروب المطلوب خوضها.

يؤكّد التطور الذي تشهده اصيله، والذي لا يلاحظه الا من يغيب عن البلدة فترة من الزمن تسمح له برؤية الفارق، الاستثمار المجدي في كلّ ما له علاقة بالإنسان فضلا عن اهمّية الحوار. هذا الحوار، الذي لا يخشى المحرمات والعقد، أتاح لـ"موسم اصيلة" مواكبة التغييرات العميقة التي يشهدها العالم. لخص وزير الخارجية الاسباني السابق ميغيل انخلو موراتينوس الوضع العالمي بقوله ان "علينا

اعداد انفسنا لتغييرات كبيرة في هذا العالم". أشار الى ان الناس في الشارع أوقفوا انقلابا عسكريا في تركيا والى انّه "سيتوجّب على الامم المتحدة نفسها ان تتغيّر".

لا أجوبة عن الأسئلة المطروحة في ما يخصّ مرحلة المخاض التي يمرّ فيها العالم. هذا لم يمنع شخصيات عدّة شاركت في ندوات الموسم من ابداء ملاحظات ذات وزن. فالمصري مصطفى الحجازي، وهو من الناشطين في مجال حقوق الانسان، أشار في تفسيره لما جرى في مصر في نهاية 2010 وبداية 2011 الى ان "المجتمع المصري كان يطالب بإستعادة انسانيته" معتبرا ان "الحوكمة هي احدى الوسائل التي ستؤسس للحكم المدني والأهلي".

أفكار كثيرة طرحها مشاركون في الندوات وعلى هامشها. كان مفيدا سماع السفير الفلسطيني السابق في واشنطن حسن عبد الرحمن يوضح للحاضرين انّه خلال وجوده الطويل في الولايات المتحدة لم يسمع بـ"حوكمة" او "حكامة"، بل سمع بـ"إدارة أميركية". هذه الإدارة "تدير الشأن العام والحكومة موظفة لدى المواطنين"، موضحا انّ الامر بالنسبة الينا هو ان "الحوكمة تأتي من حكم وحاكم، من مفهوم الضغط، وليس من مفهوم الإدارة".

كانت هناك مداخلات كثيرة جيدة واخرى باهتة، خصوصا عندما أشاد احد العراقيين من الموالين للنظام القائم بالتطورات الايجابية، من وجهة نظره، التي شهدها بلده منذ سقوط نظام صدّام حسين، غير المأسوف عليه. بدل ان يمتلك هذا العراقي ما يكفي من الشجاعة للاعتراف بان الوضع العراقي الراهن اسوأ بكثير مما كان عليه في عهد صدّام، خصوصا في ظلّ الشرخ المذهبي القائم، تجاهل كلّ ما يجري على الأرض. بدا وكأنّه يتحدث عن بلد آخر غير العراق. اخطأ في تسمية البلد الذي يشير اليه، اذ اعتبر انّ في العراق مجتمعا مدنيا يواجه الفاسدين. ولكن ما العمل، فكلّ شيء مسموح في اصيلة حيث لا حدود للحرية. بل ان الأخطاء الجسيمة مسموح بها أيضا، لا سيما انّها تدعو الى التفكير مليا في الوضعين العربي والإقليمي وفي المآسي التي تعاني منها بلدان عدة. يأتي العراق على رأس هذه البلدان البائسة.

كان في اصيلة أيضا نقاش في شأن المنظمات غير الحكومية ومدى ارتباطها بالدول او الجهات التي تمولها. كان نقاشا مثيرا للاهتمام، اقلّه من زاوية ان مثل هذا النوع من النقاشات يمكن ان يستمر الى ما لا نهاية من دون الوصول الى نتيجة او خلاصة او رأي موحد. لكن علي عبدالله خليفة المستشار في الديوان الملكي البحريني اعطى صورة موجزة عن الدور الذي يمكن ان تلعبه منظمات المجتمع المدني في دعم دولة مثل البحرين يمتلك شعبها تجربة مهمة وغنيّة سمحت له بالصمود في وجه العواصف التي تتعرض لها المملكة وذلك منذ قيام "أسرة الادباء&والكتاب" في العام 1969، أي قبل الاستقلال ثم "الملتقى الثقافي الأهلي" الذي حلّ مكانها في العام 1995.

كان هناك صعود ونزول في الندوات. كان هناك اشخاص من مستويات متفاوتة تماما. على الرغم من ذلك، يبقى ان لا بديل من أصيلة في عالمنا العربي الممتد من المحيط الى الخليج.

يظلّ اهمّ ما في اصيلة، اصيلة نفسها وكيف اثرت التجربة ايجابا على المواطن ابن البلدة نفسها او على المغربي في شكل عام. تغيّر العالم وتغيرت المنطقة. لكن اصيلة بقيت تتغيّر نحو الاحسن والافضل من دون ان تتغيّر اصالتها.