هل ساهم العرب في الفكر العالمي الحديث؟

يكفي أن نطرح هذا السؤال لكي يصاب أبناء لغة الضّاد بالرعب والفزع،ويصبحون عرضة للبلبلة والاضطراب! لماذا؟ لأن سؤالا كهذا يضع أمّة بأسرها، وبطرفيها، الحاكم والمحكوم، الشعب والنخب،أمام صورتها الحقيقيّة في هذا الزمن الذي لم تعرف فيه غير النكبات المدمّرة،والخيبات المرّة، والهزائم المتتالية،والتخريب الثقافي،والفكريّ، والاجتماعيولأخلاقي. ثمّ ان السؤال المذكور يبدو كما لو أنه يعرّي الذات العربيّة ليكشف خواءها،وضعفها،وعجزها عن مواكبة العصر مزيحا عنها تلك الكتلة الثقيلة من الأصباغ التي تحاول أن تتخفّى وراءها هربا من واقع مفزع يتميّز بآنحطاط يكاد بكون بلا شبيه له في عالم اليوم! وعندما نمعن النظر في تاريخ الفكر العربي خلال القرن العشرين، نتبيّن من دون بذل الكثير من العناء أن العرب سعوا بما في ذلك النخب التي تمثّلهم، التهرّب من الإجابة عن السؤال المذكور بشتّى الطرق الوسائل. فإذا ما وجدوا أنفسهم مجبرين على الاجابة عليه، آتخذوا مواقف متضاربة ومتباينة تفضي في النهاية الى نتيجة واحدة ألا وهي العجز عن الإتيان بما يقنع ويفيد!

فأمّا أصحاب الموقف الأوّل فينكصون الى الوراء باحثين في الماضي البعيد عن مستند لأطروحاتهم. وهم لا يسوقون غير كلام أصبح مكرّرا وممجوجا كالقول بإن العرب كانوا أمة متحضّرة أنجبت علماء أفذاذا في الطب وفي الرياضيّات، وفي التنجيم، وفي غير ذلك.كما أنجبت فلاسفة لولاهم لما آكتشفت أوروبا الفلسفة الإغريقيّة. وكان لها كتّاب وشعراء لا تزال آثارهم محفوظة في الذاكرة الإنسانيّة الى حدّ هذه الساعة. لكن هل مثل هذه الحجج كافية للإجابة على السؤال المذكور؟ الجواب: لا بطبيعة الحال. ذلك أنّ أمجاد الماضي ليست قادرة على اقناعنا بأن الحاضر لا بدّ أن يكون على أفضل صورة كما يتوهّم المستندون اليها. وبإمكاننا أن نضيف أن مثل هذه الحجج لا تُعلي من قيمة الأقدمين من علماء وفلاسفة ومفكرين وأدباء وشعراء، بل بالأحرى هي تحقّر من شأنهم ذلك أن هؤلاء تركوا بالفعل تراثا عظيما لا يمكن الطعن فيه. لكن ليس علينا أن نتكئ عليه في ساعات العجز والوهن والاندحار، بل يتحتّم علينا أن نعمل على تطويره، ووتجديده، وتغذيته برؤى جديدة، لكي نبعث فيه الحيوية التي تجعله قادرا على مجاراة التاريخ. ولو آضطلع أصحاب الموقف المشار اليه بمثل هذه المهمة، مهمة تطوير التراث وتجديده وإحيائه،لكان من حقّهم الانتساب اليه. أمّا أن يزداد هؤلاء نكوصا الى الوراء رافعين شعار:الاسلام هو الحل"،وزاعمين بأن العودة الى ما يسمونه ب"السلف الصالح"،والى الاسلام في فترة ظهوره سيساعد العرب راهنا على الخروج من النفق الأسود فهذا ما يجعل منهم مجرد مروجين لأوهام وأكاذيب. والأفظع من ذلك، أنهم يلجأون الى العنف، والى تكفير كلّ من يخالفهم في الرأي لفرض وجودهم. ولمّا سمح لهم ما سمّي ب"الربيع العربي" بالوصول الى السلطة في البعض من البلدان العربية، تبيّن بما لا يدعو للشكّ أن هؤلاء عاجزون عجزا تاما عن تسيير شؤون الدولة، وعن حلّ المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعيّة التي آزدادت تفاقما في زمنهم، مجبرين المجتمعات والشعوب على تقبل ما تكرهه وترفضه وتدينه.

وأمّا التيّار الفكري الثاني فهو تيّار "الأصالة والمعاصرة". وأصحاب هذا التيّار يحاولون التوفيق بين الماضي والحاضر زاعمين أن الماضي يحتوي على بذور ومكوّنات ما عرفته العصور الحديثة من إنجزات هائلة في العديد من المجالات. وآعتمادا على ذلك هم يذهبون الى حدّ الجزم بأن هناك في التراث العربي القديم ما يمكن أن ينسجم مع الاشتراكية، ومع الفلسفات التنويرية التي عرفها الغرب خلال القرن الثامن عشر،والتي أدّت الى ثورات اطاحت بالأنظمة الاستبداديّة، وبسلطة الكنيسة.وفي المجال السياسي هم يؤكّدون أن في الاسلام نظما ومذاهب تتناسب مع الديمقراطيّة الحديثة. وأكثر من مرّة حاولوا أن يقنعوا أنفسهم، ويقنعوا الآخرين بأن آبن خلدون آستبق كارل ماركس في البعض من اطروحاته السوسيولوجيّة، وأن الغزالي كان سبّاقا الى الشكّ قبل ديكارت، وأن حازم القرطاجني والامام عبد القاهر الجرجاني ركّزا أسس البنويّة قبل ناعوم تشومسكي،ورولان بارت،وميشال فوكو! وعلينا أن نقول بإن أصحاب المواقف التوفيقيّة عادة ما يختارون المواقع السهلة والمريحة لتمرير أطروحاتهم. وكذا هو الأمر بالنسبة لأصحاب تيّار"الأصالة والمعاصرة".وبسبب نزعتهم التوفقيّة هذه، ونفورهم من العمل الجادّ والرّصين، وجدوا أنفسهم وقد خسروا المعركتين. فلا هم طوّروا التراث القديم، ولاهم آستطاعوا النفاذ الى جوهر الإنجزات الفكرية والفلسفية والعلميّة والأدبية التي عرفتها الإنسانية في العصور الحديثة. وهكذا ظلّوا يتأرجحون في الفراغ. وهم في هذا الوضع شديدو الشبه بمصطفى سعيد، بطل رواية "موسم الهجرة الى الشمال" للطيب صالح الذي يجد نفسه في نهاية المطاف عاجزا عن بلوغ ضقتي النهر، فيكون مصيره الموت غرقا. وظنّي أن أصحاب "ألأصالة والمعاصرة" ماتوا غرقا في مستنقع مناهجهم البالية، وأطروحاتهم التوفيقيّة. واذا ما كان أصحاب التيّار السلفي الأصولي يعملون على دفن أنفسهم في قبور الماضي السحيقة هربا من ضوء الحاضر المبهر،فإن أصحاب تيّار"الأصالة والمعاصرة" يهوون نبش القبور، والاكتفاء بتمجيد من يعتبرونهم أسلافهم في الفكر والأدب.

مقابل هذين التيّارين، نجد التيّار العلماني أو الحداثي.وأصحاب هذا التيّار لا يرون في ماضي العرب ولا في حاضرهم ما يمكن أن يفيد وينفع لتحقيق التقدم المنشود،ومواكبة العصر. لذا هم يدعون الى الإنفتاح على الحضارة الغربيّة الحديثة للخورج من التخلف،وإسقاط أنظمة الفساد والاستبداد. وبسب منظورهم هذا، هم وجدوا أنفسهم يتامى مرتين: مرة لأن خطابهم مرفوض من قسم كبير من المجتمعات العربية الغارقة في الجهل والتخلف والانحطاط،والرازجة تحت عبء ثقافة ميّتة تسيطر عليها الشعوذة والأوهام. والمرة الثانية لأن أطروحاتهم تبدو وكأنها مجرّد آستنساخ لأطروحات كبار المفكرين الغربيين. ولأن المفكر الحقيقي بحسب نيتشه هو القادر على آبتكار المفاهيم، فإن أصحاب التيّار الحداثي أو العلماني لا يمكن آعتبارهم مفكرين حقيقيين إذ أنه ولاأحد منهم يمكن آعتباره مولّدا لمفاهيم جديدة.وجلّ أطروحاتهم مستلهمة من المفكرين والفلاسفة الغربيين. والجهد الوحيد الذي بذلوه ويبذلونه هو ترجمة هذه المفاهيم الى لغة الضاد.بل أن مفكرا مثل أركون آختار أن يطرح أفكاره باللغة الفرنسية. لذا ظلّ مثل بقيّة أصحاب هذا التيّار "معزولا " عن الجمهور العريض.

وإذن يمكن القول في النهاية أن مساهمة العرب في الفكر الحديث ضئيلة للغاية،بل تكاد تكون منعدمة. ولعل هذا ما يسفر جزءا مُهمّا من هذا الإنحطاط العربي الذي يتجدّد دائما وأبدا!