&نشير في البداية إلى السياسات السلمية والديموقراطية للرئيس الأميركي الأعظم فرانكلين روزفلت وقد كتب في مذكراته قبل أن يتوفى بأيام قليلة أنه يؤمن بأن ستالين وليس تشيرتشل هو من سيقيم عالماً يسوده السلام والديموقراطية . أما نائبه هاري ترومان الذي أصبح رئيساً حال وفاة روزفلت فكان مصاباً بلوثة العداء للشيوعية بل وكره الإنسانية أيضاً فهو أول وآخر من استخدم السلاح النووي في حصد أرواح المدنيين في هيروشيما وناغازاكي . لنا أن نأخذ في الاعتبار أن رئيس أكبر دولة رأسمالية بعد الحرب لا بد أن يكون معادياً للشيوعية لكن ليس لدرجة الحمق والجنون وكره الإنسانية (Misanthrope) . ما كان ترومان لينتصر في حربه على اليابان إلا بعد أن حطم الجيش الأحمر السوفياتي مجمل جيوش اليابان البرية في منشوريا وإلا لما كان مستبعداً أن تحتل اليابان الولايات المتحدة رغم قنابلها الذرية التي لم يكن لها أثر حاسم في الحرب حيث استمرت اليابان تحارب أقوى دولتين في العالم، الإتحاد السوفياتي والولايات التحدة، لأكثر من ثلاثة أسابيع بعد هيروشيما وناغازاكي . ورغم ذلك أرسى ترومان سياسة الولايات المتحدة العامة خلال النصف الثاني من القرن العشرين سياسة تكرّس كل مقدرات أميركا لمقاومة الشيوعية . الامبراطوريتان الاستعماريتان، بريطانيا وفرنسا، حافظتا حتى بعد انهيارهما في الحرب على سياسة العداء للشيوعية لكن ليس لدرجة الحمق والجنون مثل الولايات المتحدة التي استنفذت كل مقدراتها حتى الانهيار في سبعينيات القرن الماضي في مقاومة الشيوعية . ومع ذلك فإن ادارة نيكسون التي عانت من الإفلاس واضطرت إلى الخروج من معاهدة الغطاء الذهبي لم ترتدع ويسافر نيكسون إلى الصين في العام 1971 يشجعها على إنتاج البضائع لحساب السوق الأميركية على حساب الرأسماليين والطبقة العاملة الأميركية ويفاقم من إفلاس أميركا، حبث كان ذلك هو الطريق الوحيد الذي يضمن انحراف الصين عن الشيوعية، الانحراف الذي كان يقوده دنغ هيساو بنغ "خروشتشوف الصين" كما كان ينادية ماوتسي تونج .&

لم تدرك الإدارة الأميركية أن الثورة الاشتراكية كانت قد بدأت بالتراجع حال رحيل ستالين في مارس آذار 1953 ولذلك أنفقت كل مقدراتها ونقلت إنتاج البضائع إلى شرق آسيا في خطة تاريخية كبرى لمقاومة الشيوعية فكان أن انهارت أميركا في السبعينيات ولم ينهر الاتحاد السوفياتي إلا في نهاية الثمانينيات . استنفذت أميركا كل مقدراتها في مقاومة الشيوعية دون أن تفلح في شيء حيث كان انهيار الاتحاد السوفياتي بفعل قوى سوفياتية معادية للإشتراكية، بل إن حرب أميركا على الشيوعية ضيقت الخناق على القوى السوفياتية المعادية للإشتراكية ولذلك يمكن القول أن حرب أميركا أطال من عمر الاتحاد السوفياتي .
الحبور الطافح بالإنتصار الكاذب على المعسكر الإشتراكي إنتهاء بتفكيك الإتحاد السوفياتي هو ما حدا بأميركا إلى القيام بأقوى فعل رجعي ضد تقدم الاتسانية وضد الاشتراكية وهو تجهيل العالم وتعميته عن إدراك حقيقة عوامل التطور الاجتماعي التي من شأنها ألا تسمح للبورجوازية الوضيعة بالإستيلاء على السلطة لفترة طويلة، البورجوازية الوضيعة التي تستهلك ولا تنتج، كما هو حال العالم اليوم، عالم البورجوازية الوضيعة الغارق في ديون فلكية تتجاوز 75 ترليون دولار . &&
مع انهيار الاتحاد السوفياتي خططت وزارة الخارجية الأميركية توجيه ضربة قاضية لقوى التقدم في العالم فاجتهد وزير خارجيتها الذكي جيمس بيكر (James Baker) آنذاك ورأى أن الضربة القاضية لقوى الثورة العالمية تتركز في تضليل هذه القوى فيما يخص العوامل الحقيقية للتطور الإجتماعي . فكان أن أنتدب لهذا الأمر أعلى استاذين في العلوم السياسية أحدهما فرانسس فوكوياما &(Francis Fukuyama) عميد كلية الاقتصاد السياسي في جامعة جون هوبكنز الشهيرة (John Hopkins) والثاني صموئيل هنتنغتون (Samuel Huntington) عميد كلية الاقتصاد السياسي في جامعة هارفارد (Harvard) المتميزة . ونشر هذان الآستاذان مقالتين في مجلة الشؤون الخارجية (Foreign Affairs) التي ترعاها وزارة الخارجية الأميركية، الأول لفوكوياما تحت عنوان نهاية التاريخ (End of History) والثاني لهنتنغتون تحت عنوان صراع الحضارات (Clash of Civilisations) . لقي المقالان إعجاب وزارة الخارجية فأوصت الكاتبين يالتوسع في البحثين واصدارهما في كتابين تتولى الوزارة نشرهما على صعيد العالم وهو ما كان .
&
الهدف الرئيس للكتابين هو نقض ماركس في عوامل التطور الاجتماعي ؛ والحقيقة أن ما ساعد على نشرهما فيما لا يستحقان هو الجهل العام في علوم الماركسية . وزارة الخارجية الأميركية وفي خدمتها مختلف أجهزة الدولة الأميركية كان شغلها الشاغل منذ عهد ترومان هو مقاومة الشيوعية، بينما كانت وزارة الخارجية السوفياتية موظفة حتى رحيل ستالين في حماية أمن الاتحاد السوفياتي أما فيما بعد ستالين فقد انقلبت إلى معاداة الشيوعية الماركسية بصورة جذرية أكثر عمقاً من معاداة وزارة الخارجية الأميركية . يضاف إلى ذلك أن عموم الأحزاب الشيوعية في مختلف أصقاع الأرض لم تكن على علم كافٍ بمبادئ علوم الماركسية . قلَّ فيها من يعرف أن الصراع الطبقي الذي اعتبره ماركس محرك التطور الاجتماعي يتأصل في فقر أدوات الانتاج القائمة وهو ما يتسبب في انقسام المجتمع إلى طبقات متصارعة بين من يصارع من أجل الإبقاء على أدوات الإنتاج الفاعلة ومن يصارع من أجل تطويرها وتغييرها، بين من يمتلكها وبين من يشغّلها .
كان الأكثر تحايلاً بين معارضي ماركس هو فرانسس فوكوياما حيث نفى الصراع الطبقي كمحرك للتاريخ كما اعتبره ماركس وأحل محله مبدأ أفلاطوني هو النزوع السلطوي في الإنسان (Thymos) . يبدو أن عميد الاقتصاد السياسي في جامعة هوبكنز لا يعرف ماهية التاريخ . لمّا كان التاريخ هو قصة حياة الإنسان حصراً دون الحيوانات الأخرى فذلك يعني بالضرورة أن الصفحة الأولى من السجل المتعاظم لتاريخ الإنسان تحكي &بداية الرحلة التغريبية التاريخية التي لا نهاية لها للإنسان . تغرّب الإنسان عن ذاته وتناول من خارج جسمه أدوات من الطبيعة لينتج بوساطتها حياتة . قد يجادل فوكوياما أن الإنسان استخدم أدوات من خارج ذاته في نزوع للتسلط على الكائنات الأخرى وعلى الطبيعة . كان ذلك سيكون صحيحاً لو أن الإنسان ضمن بقاءه بدون أدوات من خارج ذاته لكن وأن هذه الأدوات هي وسيلتة الوحيدة للبقاء، بقاء النوع، دون الحيوانات الأخرى، فذلك يعني أن الإنسان كان وسيبقى الطفل الرضيع لأدوات الإنتاج . في هذه الصورة التي تحكي كل تاريخ الإنسانية ينتفي كل حديث عن غريزة التسلط في الإنسان بل العكس هو الصحيح حيث أن الإنسان لم يستطع أن ينتج حياته من غير التآخي مع الناس من حوله والتعاون معهم في أعمال الإنتاج . يتخلى الإنسان عن غريزة التسلط المزعومة في تعاون وثيق مع أخيه الإنسان في مختلف أعمال الإنتاج، كما يخضع بنفس الوقت لشروط أدوات الانتاج . جيوش بضعة دول استعمارية غزت بلدان العالم جميعها وأخضعت شعوبها قبل نهاية القرن التاسع عشر ليس لحب التسلط كما يفسر فوكوياما بل لتصريف فائض الإنتاج المتحقق في مراكز الرأسمالية وإلا لكانت نهاية هذه المراكز .
أما دعوى صموئيل هنتنجتون (صراع الحضارات) فهي دعوى باطلة شكلاً وموضوعاً . فتاريخ الولايات المتحدة الحديث، باستثناء فترة رئاسة فرانكلين روزفلت، كُتب تحت عنوان واحد هو مقاومة الشيوعية . استنفذت أميركا كل مقدراتها في مقاومة الشيوعية حتى باتت عملتها الوطنية (الدولار) إثر هزيمتها في فيتنام رهن بنوك أوروبا الغربية واليابان في العام 1975 ـ واليوم رهن الصين الشيوعية ـ &وفقدت أميركا أول رموز سيادتها وهو العملة الوطنية، كل ذلك قبل أن يكون هناك حضارة شيوعية على وجه الأرض . وهل اختلفت حضارة الولايات المتحدة في عهد ترومان قائد الحرب على الشيوعية عما كانت في عهد روزفلت الصديق الصادق لقائد الثورة الشيوعية يوسف ستالين وقد اعتبره القائد الذي يقود العالم إلى السلام والديموقراطية !!؟
&
ما أود أن ألفت النظر إليه في هذا المقام هو أن أميركا، ولها كل الحق في ذلك، كانت قد رأت أن كل أعمالها في مقاومة الشيوعية لم تفعل ما فعله كتابا "نهاية التاريخ" لفوكوياما و "صراع الحضارات" لهنتنغتون اللذان كان لهما أثر واسع في تعمية إنتليجنسيا البورجوازية الوضيعة عن تدارك العوامل الحقيقية للتطور الإجتماعي رغم كل الشطط الذي اشتطاه في سياق التعرّف على عوامل التطور الاجتماعي، دون أن ننسى بذات الوقت أن الراية التي قاتلت تحتها البورجوازية الوضيعة في حربها على البورجوازية الدينامية الرأسمالية كانت تدعو لتحطيم أدوات الانتاج الجديدة وطبقة البروليتاريا المستجدة بالتبعية . & & & & & & & & & & & & & & &
الكاتب السياسي والمحلل الاستراتيجي الذي لا يدرك عوامل التطور الاجتماعي ويبني عليها عليه أن يبحث عن وظيفة أخرى له حتى لا يزعج الناس بلغو الكلام البغو .
مسألة أخرى يجب الالتفات إليها وهي أن الإعلام الرأسمالي لم يكن بإمكانه التورط في التجهيل بما يتعلق بعوامل التطور الإجتماعي وذلك لأن تطور النظام الرأسمالي نفسه إعتمد إعتماداً كلياً لا يحتمل الإشتباه على تطوير معاملي الإنتاج وهما العمال وأدوات الإنتاج وبغير ذلك يبدأ النظام الرأسمالي بالانتكاس .
التجهيل بعوامل التطور الإجتماعي هو اللعبة المفضلة بل الأساسية للطبقة البورجوازية الوضيعة التي حذر منها ماركس وانجلز في ـ المانيفيستو الشيوعي ـ في الفصل الأول تحت عنوان "البورجوازية والبروليتاريا" حيث قالا ..
"الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، الصناعيون اليدويون، أصحاب الدكاكين، المهنيون والفلاحون، جميع هؤلاء يقاتلون البورجوازية * كيلا ينزاحوا من الطبقة الوسطى وهم بذلك ليسوا ثوريين بل محافظين . بل أكثر من ذلك إنهم رجعيون حيث يعملون على إدارة عجلة التاريخ إلى الخلف . لئن صادف أن ظهروا بمظهر الثوريين فذلك ليس إلا لأنهم سيتحولون في المستقبل إلى بروليتاريا وهكذا هم يدافعون عن مستقبلهم وليس عن حاضرهم" .
البورجوازية الوضيعة ـ أو ما توصف اليوم بالطبقة الوسطى ـ ينحصر إنتاجها في الخدمات، والخدمات ليست من أسباب الحياة (Subsistence) ولا قيمة تبادلية لها حيث أنها لا تصل السوق وتجري مبادلتها جزافاً (Haphazardly) دون أن تكتسب منزلة الصنمية (Fetishism) التي رآها ماركس في السلعة معروضة في السوق .
لقد أصاب ماركس كبد الحقيقة عندما قال أن البورجوازية الوضيعة هي دائماً رجعية حيث تجهد دائماً لإدارة عجلة التاريخ إلى الخلف . تدعي البورجوازية الوضيعة اليوم أن المعامل الحدي في تحديد القيمة لم يعد هو قوى العمل بل المعرفة، وأخذوا يتحدثون عما سموه "اقتصاد المعرفة" .&
واجبنا الملح يجب أن يبدأ بالتعرف على ما يسمى اليوم باقتصاد المعرفة . الدول الرأسمالية سابقا التي كانت موئلاً للإنتاج السلعي وتضطر لأن تبحث عن أسواق خارجية لفائض الإنتاج المتحقق لديها مما يستدعي في الغالب شن الحروب المدمرة لتوفير تلك الأسواق، هذه الدول يسودها اليوم الإنتاج الخدمي، فيصل في الولايات المتحدة إلى ما يزيد على 80% من مجمل الانتاج المحلي، أما في اليابان وفيها أقل نسبة من الخدمات بين الدول الرأسمالية الأخرى فتصل إلى زهاء 70% . شعوب هذه البلدان التي اعتادت على الإثراء بفضل الاناج الرأسمالي تواجه اليوم شحاً متزايداً في حاجتها للسلع المادية الصناعية الأمر الذي يضطرها إلى استيرادها من الخارج . وهكذا فبضعة الدول الرأسمالية التي اقتسمت كل سطح المعمورة في العام 1913 كأسواق لصناعاتها المختلفة ومع ذلك تفجرت حرب عالمية لإعادة تقسيم الأسواق بسبب التزاحم في إنتاج السلع، هي اليوم نفسها مدينة بأكثر من 50 ترليون دولارا فائدتها السنوية حوالي 2 ترليون دولار، وما ذلك إلا بسبب اقتصاد المعرفة .
الحقيقة الصلبة التي تفري عيون البورجوازية الوضيعة هي أن للإنتاج معاملين هما البروليتاريا وأدوات الإنتاج . إنكار هذه الحقيقة الصلبة كمبرر للهروب من استحقاق الاشتراكية، كما كان قد هرب الحزب الشيوعي السوفياتي في العام 1953، لن يصل إلا إلى الانهيار الاقتصادي، إلى الإرهاب والمخدرات وتجارة الرقيق والانحطاط الفكري والقيمي .
&
• كان ماركس يعتبر البورجوازية الدينامية (الرأسماليين) والبورجوازية الوضيعة كليهما من الطبقة الوسطى .&
&