كان الراحل كاتب ياسين(1929-1989) في السادسة عشرة من عمره لمل آندلعت آنتفاضة سطيف التي سقط ضحيّتها عشرات الآلاف من الضحايا، جميعهم من أبناء الجزائر الذين نزلوا الى الشوارع للتعبير عن غضبهم بعد أن أخلّت فرنسا بالوعود التي قطعتها على نفسها خلال الحرب الكونية الثانية، والمتمثلة في منح البلدان المولى عليها آ ستقلالها. وكان المراهق النحيل، المفتون بالشعر وبجمال النساء، والذي هو كاتب ياسين قد تغيّب عن دروسه في يوم الغضب ذاك ليشارك بحملس فيّاض في تلك الإنتفاضة الشعبيّة العارمة التي مهدت لحرب التحرير الوطنية. فكان نصيبه السجن لكن لبضعة أشهر فقط.وظانة أن آبنها الأعزّ على قلبها قد يكون بين الشهداء، كادت والدته تصاب بالجنون. وفي ما بعد كتب هو يقول:”تلك الصدمة الكبيرة (يعني بذلك آنتفاضة سطيف) كانت لها آنعكاسات على جميع جوانب حياتي، وتحولت الى صورة مرعبة تلاحقني طوال الوقت(...)أنا أنتسب الى ذلك الجيل، جيل 1945،الذي ستكون حياته موسومة بالثورة". وسيعود كاتب ياسين في العديد من أعماله، خصوصا رائعته "نجمة" ليرسم صورا مختلفة عنها. وخلال الحرب التحريرية أنكبّ كاتب ياسين على كتابة رواياته وأشعاره التي ستحقق له شهرة كبيرة في فرنسا، وستجعل منه الكاتب الأكثر آقترابا من واقع بلاده المرير. وكان عليه في تلك الفترة المريرة، فترة الحرب، أن يعيش متنقلا بين العديد من البلدان. فكان في ألمانيا حيث تزوج تاركا آبنا هناك. وكان في فيتنام ليكتب تحقيقات مثيرة عن الثورة الشيوعية فيها، مبديا اعجابا كبيرا بالجنرال جياب. وكان في تونس مع مئات الآلاف من المهاجرين الجزائريين، وفيها ساهم بالكتابة في مجلة "جون افريك" التي أسسها التونسي البشير بن يحمد. وفي المقالات التي نشرها في المجلة المذكورة أشاد كاتب ياسين ببطولة التونسيين في حرب بنزرت، منوها بالتضامن بين أبناء المغرب العربي.

وبعد آنتهاء الحرب التحريرية، وحصول الجزائر على آستقلالها، عاد كاتب ياسين الى بلاده راغبا في المساهمة الفعلية في بنائها، غير أنه لاقى منذ البداية الصدود والرفض من قبل حكامها الجدد الذين كانوا يبدون آحتقارا للثقافة والمثقفين، ولم يكونوا يخفون رفضهم لكل من يخالفهم في الرأي والفكرة. مع ذلك ظلّ كاتب ياسين مُصرّا على مواصلة ما كان يسميه ب"المقاومة الثقافية"، رافضا كل أشكال الخضوع، والتدجين.لذا أنشأ مسرحا شعبيا في مدينة سيدي بلعباس. ومن خلال المسرحيات التي أنجزها، عالج قضايا آجتماعية وسياسية تتصل بالواقع الجزائري بعد الاستقلال. وحتى النهاية، ظلّ يحلم بمغرب عربي موحد. وفي مقال حمل عنوان:”من يوغرطه الى فرحات عباس"،كتب يقول بإنّ الشعوب المغاربية توحدت دائما، عبر مختلف مراحل التاريخ، لمواجهة الأعداء والغزاة. وعندما وقعت تحت الهيمنة الاستعمارية، كان التضامن في ما بينها من الأدوات التي ساعدتها على الحفاظ على شخصيتها الوطنية. و في نفس المقال يشير صاحب"نجمة" الى أن آستقلال البلدان المغاربية لن يتحقق فعليا، ولن يكون نافعا ومفيدا لشعوبها ونخبها الثقافية إلاّ في ظل وحدة بينها. وهي وحدة تشرّعها عوامل تاريخية وثقافية وجغرافية..لكن يبدو أن أمل كاتب ياسين الذي يتقاسمه الكثيرون في المغرب والجزائر وتونس سوف يظل صعب التحقيق. وربما لهذا السبب، بات مُحتّما على مثقفي دول المغرب العربي أن يتكاتفوا ويضامنوا، ويعيدوا الإعتبار لما سماه كاتب ياسين ب"المقاومة الثقافية"، لمواجهة القضايا الخطيرة والساخنة التي تهدد بلدانهم. وأول هذه المخاطر التطرف الديني الذي أغرق الجزائر في الجريمة والدم طوال عقد الستينات، والذي لا يزال يهدد أمنها وآستقر ارها حتى هذه الساعة. كما أنه يهدد أمن وآستقرار كل من المغرب وتونس، باسطا ظلماته على جزء هام من الأجيال الصاعدة. يحدث هذا في ظلّ غياب نخب ثقافيّة وفكريّة فاعلة في الواقع. أما القضية الخطيرة الأخرى التي عطلت بناء تضامن مغاربي جديّ وناجع في ظلّ المستجدات العالميّة فهي قضية الصحراء التي فجرت نزاعا بين المغرب والجزائر منذ أواسط السبعينات من القرن الماضي.

ولا يزال هذا النزاع قائما بين البلدين الشقيقين من دون أن يبرز في الأفق القريب أو البعيد ما يشي بأمل في نهايته. لذلك يجدر بالمثقفين المغاربة أن يعيدوا الإعتبار ل"ثقافة المقاومة" التي دعا إليها الراحل كاتب ياسين، فلعل ذلك يجبر السياسيين على إطفاء نار الخلافات والنزاعات التي باتت عبئا ثقيلا لم تعد الشعوب والنخب الفكرية والثقافية والأجيال الجديدة في زمن العولمة، والتحديات العالميّة الخطيرة، قادرة على تحملها، والسكوت عنها.