&

كيف تتجسد الفكرة من خلالك، وكيف قد تقول أشياء فيها بعض النفع عن موضوع كتب حوله الكثيرون، ما هو التمثل بعد صور كثيرة كانت متخيلة، لا أدعي تجاوز جانب الذاتية فيها، ولكن أدعي بالمقابل الإفصاح عن انطباعات عفوية/ذاتية، متحررة قدر الممكن من ثقل الفكرة التي راكمناها حول هذا المجتمع سواء عبر مقروئنا أو مشاهداتنا السينمائية، وحكايات العابرين، وعبر ما رغب الأميركيون أنفسهم أن يراهم عليه العالم. هي عبورات معرفية وسوسيولوجية كثيرة تقف دون سهولة التعبير الإنطباعي.&

شدني في زيارة إلى فرجينيا حدث ديني هام، تجمهر شبابي (Reset Movement) من جميع طوائف المسيحية، جمعهم القلق والاستفسار عن مستقبل المرجعية الأخلاقية فوق هذه الأرض، بعبارة أخرى الأمر أشبه باستفسار عن قيمة المرجعية الأخلاقية اليوم، عبر ما يتم سنه من قوانين، الجميع يعي ضرورة التعامي الدستوري للقانون عن تدخل الدين في الحياة العامة، ودون شك فالسبب الظاهر لخروج هؤلاء كان توالي الأحداث، قبول زواج المثليين، والإجهاض.الخ. إلا أن المسألة تحمل عمقا أكبر، بالأخص حين نعرف أن انبعاث هؤلاء كان بدافع من فهم يخصهم ويؤمنون بحقهم في طرحه؛ وهو الحرية، فلا يمكن في نظرهم أن تنحصر هذه الأخيرة في تمثل محدد يقصي الأخلاق في ارتباطها بالهوية والتاريخ والثابت أو ما يعتقد أنه كذلك. هم أنفسهم لا يملكون تصورا واضحا عن المشكل ولا يدّعون ذلك، لكنهم مقتنعون بقيمة الخروج للتعبير عن قلقهم هذا، وحقهم في إثارة التساؤل الذي اعتقد الكثيرون أنه قد حسم نقاشه. نقاش أميركي صرف، تعيشه فكرة الحرية فوق هذه الأرض وهي تتعرف على أشكال تطورها الممكنة. أي أننا لم نحسم شيئا بعد فهذا المختبر الكبير (أمريكا) تعتمل بدواخله نقاشات تمس مركزيات تشكل الدولة فيه.

في زيارة أخرى، ذات علاقة بالشباب أيضا، إلى الكنيسة الإنجيلية (McLean Bible Church)، دعوة وجهت لنا قصد الاكتشاف - ضمن مشروع الأديان عبر الحضارات Study of Religions Across Civilizations (SORAC) -، عند الوصول كنت أبحث عن رموز كنسية، عن كل ما قد يشعرني بأنني في معلمة دينية، لكن دون جدوى، بناية تنتمي لعصر الحداثة بامتياز، أبواب زجاجية أشبه بمدخل محل تجاري كبير، أسفل مبنى سكني شاهق، المدخل لا شموع فيه أو صليب أو قساوسة في الاستقبال، فقط شباب متأنق يستشعرون الانتماء المتبادل، منفتحون على بعضهم البعض قدر المستطاع.

&بعد الدخول للقاعة التي لم تكن غير مسرح لتقديم العروض المختلفة، ستبدأ طقوس العبادة بصعود مجموعة من الشباب للمنصة والغناء بآلات موسيقية عصرية، لا حضور للأورغ الكنسي القديم بينها. موسيقى روك صاخبة خفيفة، الجميع يردد فيها أغاني تعبر عن الانتماء الديني، عن حب المسيح، عن استشعار لقيمة التدين والإيمان، فحينما تتحرر الشعوب تعي قيمة اختياراتها الشخصية وقيمة ممارساتها التعبدية. مغامرة مستفزة بالنسبة لشاب مسلم مثلي، تمثل الكنيسة دوما بتصور معين، وتمثل الشباب الأميركي عبر صور كان يعتقد رغم مرونتها بأنها لن تخرج عن قوالب ذلك التصور المرجعية. فالغرابة في الموقف أنني أمام شباب يحب معتقده ويعبر عن ذلك، شباب ناجح ومتحرر، مختلط الأعراق، والأجمل أنه يعبر عن ذلك بطريقته التي تنتمي لجيله، جيل ما بعد الحداثة، لكأن سرعة تغيرات المختبر (الوطن الأميركي) الاجتماعية والدينية.الخ، جعلتهم يندفعون للتعبير عن الخصوصية الدينية بطريقتهم، وفي الآن نفسه الاطمئنان على استمرار التدين في مجتمعهم.&

&مسيرة الرغبة في تجاوز الخوف من الآخر، وتجاوز الحواجز التاريخية، قادتني هذه المرة إلى زيارة مميزة، منظمة الكتف بالكتف (Shoulder to Shoulder) والنقاش رفقة الأصدقاء مع الباحثة كاثرين أورسبورن Cathrine Orsborn المشرفة على المنظمة، التي يقوم عملها على تجاوز الكثير من التضييق الذي يشهده المسلمون في المجتمع الأميركي اليوم، ومن أهدافها كذلك محاصرة العنصرية والعداء المنبني على أساس ديني، فقاعدة المواطنة والحرية تجعل الجميع محبا للوطن الذي يسعهم جميعا.&

قام تجمع معادي للإسلام داخل الولايات المتحدة بالدعوة للخروج أمام كل المساجد المنتشرة داخل رقعة البلاد، وحاول التجييش لذلك، لكن منظمة الكتف بالكتف جيشت بالمقابل ليس المواطنين فحسب، بل أدمجت بذكاء رجال دين مسيحيين ويهود، ومؤسسات محترمة تنتمي للأديان كافة، محاولة ستتكلل بالنجاح بحيث استطاعت التعبئة لما يفوق التوجه المعادي بأضعاف لا مجال للمقارنة بينها. فأيقن بعدها أصحاب المؤسسة أن فكرة تجاوز الخوف والعداء والاحتقان الديني ينبغي أخذها باهتمام أكبر، والإيمان بقيمة الحرية والوطن المشترك. ما يثير الانتباه أن المشرفين على المؤسسة لهم توجهات دينية مختلفة (مسلمين مسيحيين يهود)، إلى جانب أنهم مدركون لحساسية قبول التمويل لمنطمتهم ذات الإمكانيات البسيطة من أي جهة إسلامية خارج الوطن، بعبارة أوضح لا يريد هؤلاء أن يكون تحررهم من العداء والكراهية منبينا على دوافع خارجية، فهم يفصحون ضمنيا بأنهم شعب متحرر وقادر على تجاوز ضعفه وعيوبه وأمراضه. دون أن ننفي ذكاءهم السياسي الملحوظ لما قد يجره عليهم هذا النوع من التمويل من تهم بالعمالة للإسلام.&

تؤكد العديد من الدراسات حسب تصريح الباحثة كاثرين أورسبورن، أنه كلما التقى شخص من ديانة معينة مع مسلم إلا وتغيرت نظرته التي كان يتمثلها حول الإسلام. وهذا من الدوافع التي جعلت المنظمة تقتنع بقيمة السير على خلاف كل العماء الذي يغلب على رؤى وتصورات غالب المسؤولين السياسيين والمثقفين والمتدينين.الخ. فالعولمة وإن سهلت انتشار الكثير من الأشياء فهي جعلتنا في المقابل نعيش التناقض، فقد نعرف الكثير عن فيلم سينمائي أو ممثل هوليودي مشهور أو مُنتج لماركة عالمية، دون أن نعرف من هو المسلم الذي قد يكون جارا، أو من هو المسيحي الذي قد يجاورك في العمل سنين دون أن تهتم لفهم دينه فهما يعبر عن تصوره هو، تصوره المباشر والمحسوس بعيدا عن كل الوساطات الممكنة.&

كعادته البروفيسور بول هايك Paul L. Heck من جامعة جورج تاون والمشرف على مشروع الأديان عبر الحضارات، اقتنص الكثير من الأفكار التي ولدها هذا اللقاء، ليؤكد لنا بأننا أمام شريك من واشنطن، ويقصد تكسير نمطية الصورة التعميمية بأن المختلف عدو فعلي أو مفترض، ولهذا لا تفوته فرصة التأكيد دوما على ضرورة التعرف على طرق التعاون مع كل هؤلاء الشركاء، فهم شركاء من واشنطن كعاصمة عالمية، بعبارته الساخرة إنهم أصدقاؤكم هنا. الشراكة هنا، تتجاوز البعد الديني، فهي حمل إنساني نبيل، غرضه تكملة مسيرة الإنسانية في تجاوز حواجزها التاريخية، والتمكين لمجتمعات أساسها المواطنة العالمية والحرية دون استشعار لأي اختلاف موهوم؛ سواء دينيا أو عرقيا أو جغرافيا.&

يحدثني صديق كويتي يدرس في جامعة جورج تاون ( قسم التاريخ ) أنك تستشعر اختلافا واضحا عن أوروربا، فالعنصرية هنا ليست كما هي عليه في القارة العجوز، هنا انفتاح كبير وتقبل للتعدد يتأسس على فكرة أمريكا بلاد الهجرة والحلم الممكن للجميع. وهو بالمقابل يعبر عن استغرابه وتفهمه للانسداد الذي يعيشه المواطن الأميركي تجاه كل ما يحدث في العالم، فالأخير أميل للاهتمام بشؤونه وحياته فوق هذه الأرض. عزلة ستكسرها أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها من أحداث بدأ على إثرها الاهتمام بالإسلام والمسلمين. - يعلق ساخرا - اهتمام جعل الكثير من المتخصصين في هذا النوع من المعارف يغتنون، دون أن تكون لهم قيمة في التعريف بالإسلام والمسلمين حسبما يتمثل المسلمون أنفسهم.

هذا التعليق يضعنا أمام تصور مفاده أن المجتمع الأميركي لا يزال قادرا على تقبل أفكار عن الإسلام خارج كل الصور النمطية السطحية الرائجة اليوم، كما تعني الفكرة في وجهها الآخر أن العملية تستحق جهودا مضاعفة لتمكين هذه الصورة من الانتشار. لذا، فالمجتمع الأميركي المتدين يعتبر صديقا وحاجزا منيعا أمام تطور كل أشكال الكراهية داخل هذه الجغرافية. فالشباب الذي خرج ليعرب عن قلقه وتساؤلاته، يستحق أن يسانده المسلمون في سبيل الدفاع عن اعتقاده وحريته، وهو شريك استراتيجي لمحاصرة الخوف والكراهية. الشراكة هنا ليست تكتيكية وإنما منبينية على أساس الاحترام المتبادل لقيمة التدين عند جل المتدينين، وتقدير معتقداتهم والدفاع عن حقهم في عيشها والتعبير عنها. وتقبل فكرة أن غيرنا قادر عل الإيمان وحب المعتقد كما نستشعر موقنين إحساسنا وقناعتنا.

من فراغات المعنى هنا، أن انسداد الأفق الذي نستشعره أحيانا إزاء واقع مجتمعاتنا، ليس إلا وهما يبعدنا عن الحقيقة، فالحل دائما يكمن فينا، ولنا في تركيا عبرة تستحق التفكير فيها مليا، وربطها بمستقبل الحرية والتغيير عندنا.

تستمر مسيرة الزيارات عبر تجول غير متناهي في هذه الأزقة، بين مقهى ومكتبة ومتحف وناد ومنظمة وشركة.الخ، تحملك الأفكار في داخلك، تسير بك، تقودك للفهم والاكتشاف، دون أن تنطلق التعابير أو تنبجس من شفاهك الألفاظ المناسبة، سمعت حد الثمالة عن الانشداه أمام عالم جديد قد تراه، فوجدتني محاصرا بالمتخيل الذي يوجه أسئلة الاكتشاف عندي، بينما ما قد تعايشه غير ذلك تماما، فقد بكون للحرية لحم ودم، وقد تكون الفكرة دائما محتملة بعدا غير واضح، والمجال قد يختلط بالكثير من التراكيب الاجتماعية التي لا يسهل تفكيكها، والتعميم في وصفها.

في لقاء مع الباحثة سوزان هايوارد Susan hayward عن مركز الولايات المتحدة للسلام UNITED STATES INSTITUTE OF PEACE شد انتباهي ذلك التعليق الساخر والنابه الذي قدمته تجاه الكثير من تعليقاتنا: بأنه يغلب على تحليلاتنا التعميم بشكل كبير. دون أن تنفي في المقابل تحررها التام من ذلك، لكنها تعي خطورة هذا النوع من التحليل المحمّل بالكثير من التعميمية. لذا، فهي حين اعترفت باستشعار كم الكبير من التناقضات التي قد تنسحب على مؤسستها، بالأخص حين تحاول التعامل مع موضوع السلام في بلد جنود الولايات المتحدة يقاتلون فوق أرضه.غير أنها تجعل من الرؤية الواقعية مؤسسا لما يمكن أن ندفع به ما لم نستطع تغييره كلية، فلا يقبل منا حينها – حسب تعبيرها دوما - التنازل لهذا السيل الجارف من تقديس الموت والعداء دون مقاومة. هذه التعاليق اتفقنا معها أم اختلفنا، دفعتني للتفكير في علاقتنا بما ارتضينا له تسمية "الغرب" حسب ملاحظة حميد دباشي، فكم حدثونا عن الصدمة من الغرب، فتمثلتها في ذاتي، واستبطنت الكثير من حمولاتها المعرفية والوجدانية والنفسية، فلم أجدها كما كنت أتصور، لعلها العولمة أكلت ما بقي من فجوات فيما بيننا، لقد أقعدتنا على طاولة الانشداه بما يسير نحوه العالم كمشترك أكثر من الانشداه لما دفع جيل النهضة الأوائل للكتابة عندنا. وجدتني كثيرا ما أغوص في الفكرة وفي الوجوه وفي الاختلاف وفي المكان والمجال، بالأخص في أشكال التداخل بين المختلف داخل هذا المجتمع، وأشكال التراكب التي قدمها هذا المختبر الإنساني الكبير، لازالت هنالك أشياء كثيرة لابد للعالم أن يتقاسمها، ولعل العالم الافتراضي وجيل اليوم قد يسهم في تجسير ذلك، مهما تكاتفت الحواجز على منع ذلك.&

لست أسوق كل هذه الانطباعات قصد الترويج لأفكار معينة، أو تمجيد مجتمع ما، فجيل اليوم أكبر وأقدر على تجاوز تسطيحية فكرية كهذه، وإنما أردت مشاركة لحظات تأملية أسوقها لجيل ما بعد الاستعمار، فهو الأقدر على وضعها في مكانها المناسب دوما.