&

أحداث الحسكة الأخيرة ليست الأولى التي تحدث فيها مواجهات واشتباكات مسلحة بين قوات النظام السوري من جهة ومنظومة الدفاع الكردية (وحدات حماية الشعب"المعروفة اختصاراً بالYPG والآسايش) من جهة أخرى. سبق واندلعت بين الحين والآخر اشتباكات بين الطرفين في القامشلي ومناطق أخرى، لكن التطور الجديد في مواجهات الحسكة هو استخدام النظام سلاح الطيران لقصف المواقع الكردية، الأمر الذي يشي بحدوث تغيّر كبير أو ربما انقلاب في موقف النظام من "الحليف الكردي"، الذي وقف معه جنباً إلى جنب في الحرب ضد تمدد داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى شمالاً وشرقاً على الحدود مع تركيا الممتدة لأكثر من 850 كم.

بعد قصفه لمواقع الآسايش ووحدات الحماية الشعبية في الحسكة بسلاح الجو، خرج الجيش السوري ببيان "ناري" ولغة تهديدية واضحة، لأول مرة منذ بدء الصراع الإقليمي والدولي على سوريا، واصفاً "العمال الكردستاني" وفرعه السوري "الإتحاد الديمقراطي" ب"المتمادي" و"المستفز"، وهو ما يمكن اعتباره انقلاباً على "عقد الشراكة" مع الأخير، هذا من جهة. أما من الجهة الأخرى فالبيان فيه أكثر من رسالة ل"طمأنة" تركيا وتعبيد الطريق أمام اتفاق معها حول الأزمة السورية المشتعلة منذ حوالي خمس سنوات ونصف، والتي كان لتركيا الدور الأكبر في صب الزيت على نارها، وذلك عبر "صناعة" المعارضات السورية ودعمها اللامحدود لها، مادياً ولوجستياً وعسكرياً.

القيادة العامة ل"واحدت حماية الشعب" من جهتها خرجت ببيان مضاد شبّهت فيه لأول مرّة "إرهاب النظام بإرهاب داعش وجبهة النصرة"، وتوعدت بالرد على "غدر النظام" والتصدي له و"محاسبته".

أحداث الحسكة هي في المحصلّة نتيجة للتغيّرات التي حدثت في مواقف اللاعبين الكبار المؤثرين جداً في الأزمة السورية، أولهم تركيا.

بعد اتفاق "المصالحة" الذي تم ما بين أنقرة وموسكو، بدأت بوادر "انفراج" أو البحث عن حل سياسي تظهر في الأفق بما يخص الأزمة السورية، خصوصاً بعد انقلاب أنقرة على موقفها من "عدو لدود للأسد ونظامه" إلى "صديق" له، ومن لاعب قوي في "الحلف السني" ضد "الحلف الشيعي" إلى عكسه. مغازلة أنقرة للأسد وتنازلها عن شرط رحيله عن السلطة وإعلانها لسياسة "حسن النية" تجاه النظام السوري، واستعدادها للدخول معه في مفاوضات مباشرة عبر روسيا، والزيارات الديبلوماسية رفيعة المستوى المتبادلة بين أنقرة وطهران، وزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى طهران الإسبوع القادم، كل ذلك يأخذ هذا المنحى ويصب في هذا الإتجاه. ما يعني أنّ الاتفاق الروسي الإيراني التركي حول ضرورة إيجاد حل سياسي للأزمة السورية مع بقاء الأسد والحفاظ على وحدة الأراضي السورية و كبح جماح الحصان الكردي بقيادة قنديل، بات قاب قوسين أو أدنى من التوقيع.

الإتفاق، بحكم مصالح الأطراف الداخلة فيه، بات على الأغلب ضرورة عاجلة.

تركيا تريد التخلص من "الخطر الكردي"، والقضاء على حلم الأكراد في تشكيل "كردستان ثانية" بقيادة "العمال الكردستاني" على حدودها الطويلة مع سوريا. وروسيا تريد التمدد والتوسع باتجاه المياه الدافئة عبر الشواطئ السورية. أما إيران فتسعى إلى ضرب عصفورين بحجر واحد: أولاً، ضرب الكرد وقصصقة أجنحتهم للحؤول دون تأسيس كيان قومي لهم في سوريا على غرار إقليم كردستان العراقي، ففي أيران يعيش ما بين 7 و 8 ملايين كردي يشاركون أشقاءهم في جهات كردستان الأخرى ذات المصير وذات الحلم في تأسيس كيان قومي يجمعهم. وثانياً، ضرب المشروع السني، عبر الإبقاء على سوريا المجاورة لإسرائيل ولبنان، ك"حديقة خلفية" لها، تطّل على البحر الأبيض المتوسط.

الخروج التركي على "البيعة السنية" وتوجه أنقرة صوب طهران، قلّب كافة الموزاين لصالح النظام السوري ومعه إيران وروسيا.

على الرغم من تحذير واشنطن (التي تقدم نفسها ك"حليف" لمنظومة الدفاع الكردية التابعة لحزب الإتحاد الديمقراطي لمحاربة الإرهاب) من مغبة "التمادي" وإرسالها لطائرات إلى الحسكة لحماية القوات على الأرض، إلا أنّ سحبها ل"قوات النخبة" التي تعمل منذ شهور على تدريب "قوات سوريا الديمقراطية، بُعيد أحداث الحسكة بات يثير الكثير من علامات الإستفهام.

روسيا منذ دخولها على الخط بشكل مباشر في الحرب إلى جانب النظام السوري تدرك جيداً أنّ أمريكا بإدارة أوباما غير مستعدة لجرّ البلاد إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط. في سياق الحرب الدائرة، قصف الطيران الروسي مواقع "المعارضة المعتدلة" المدعومة أميركياً، أكثر من مرّة وفي أكثر من محور ومكان في سوريا، لكنّ واشنطن لم تتحرك للدفاع عنها ولم توفّر أي غطاء جوي لها، بل اكتفت بإطلاق بعض التصريحات والبيانات، التي لا تغني ولا تسمن.

ذات الشيء يمكن أن يحصل تجاه حلفائها الأكراد أيضاً.

الأرجح لن تدخل أمريكا في صراع مع روسيا وحلفائها لأجل حماية الأكراد حتى النهاية. كلّ المؤشرات تقول أنّ واشنطن ستقايض الأكراد من أجل حماية مصالحها في العراق وسوريا وحماية إسرائيل بالدرجة الأساس.

"العمال الكردستاني" بات يدرك جيداً أنّ اللعب مع الكبار ليس سهلاً، وأن لحظة خروجه من "المولد السوري" بدون حمص، بات وشيكاً. ومن هنا نفهم ربما سرّ إعلان منظومة المجتمع الكردستانية من قنديل عن استعدادها، في هذا الوقت بالذت وفي ظل التصعيد التركي والتصعيد الكردي المضاد، لإعادة المفاوضات مع أنقرة بشأن إيجاد حل سلمي للقضية الكردية، وهو أمر شبه مستحيل راهناً على أقل تقدير.

كل ما في هذا المشهد وما وراءه يشير إلى أنّ الكرد سيصبحون "كبش فداء" الأزمة السورية، أما الإتحاد الديمقراطي الرديف لحزب العمال الكردستاني، مع كامل منظومته الدفاعية، رغم تضجياته الجسام، فلن يتعدى كونه أكثر من "حصان طروادة" الحرب السورية، مرّةً سوري إيراني، وأخرى أمريكي، وثالثةً روسي.

&

[email protected]