&وصلتني رسالة من صديق دبلوماسي عزيز على "الواتس اب"، تضمنت فكرة عن "الأنصاف" للمبدع العربي الكبير، جبران خليل جبران، يقول فيها: "لا تجالس أنصاف العشاق، ولا تصادق أنصاف الأصدقاء، لا تقرأ لأنصاف الموهوبين، لا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت، لا تختر نصف حل، ولا تقف في منتصف الحقيقة، لا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل، إذا صمتّ.. فاصمت حتى النهاية، وإذا تكلمت.. فتكلّم حتى النهاية، لا تصمت كي تتكلم، ولا تتكلم كي تصمت. إذا رضيت فعبّر عن رضاك، لا تصطنع نصف رضا، وإذا رفضت.. فعبّر عن رفضك، لأن نصف الرفض قبول.. النصف هو حياة لم تعشها، وهو كلمة لم تقلها، وهو ابتسامة أجّلتها، وهو حب لم تصل إليه، وهو صداقة لم تعرفها.. النصف هو ما يجعلك غريباً عن أقرب الناس إليك، وهو ما يجعل أقرب الناس إليك غرباء عنك. النصف هو أن تصل وأن لا تصل، أن تعمل وأن لا تعمل، أن تغيب وأن تحضر.. النصف هو أنت، عندما لا تكون أنت.. لأنك لم تعرف من أنت، النصف هو أن لا تعرف من أنت.. ومن تحب ليس نصفك الآخر.. هو أنت في مكان آخر في الوقت نفسه. نصف شربة لن تروي ظمأك، ونصف وجبة لن تشبع جوعك، نصف طريق لن يوصلك إلى أي مكان، ونصف فكرة لن تعطي لك نتيجة، النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز.. لأنك لست نصف إنسان. أنت إنسان وجدت كي تعيش الحياة، وليس كي تعيش نصف حياة.. ليست حقيقة الإنسان بما يظهره لك.. بل بما لا يستطيع أن يظهره، لذلك .. إذا أردت أن تعرفه فلا تصغي إلى ما يقوله .. بل إلى ما لا يقوله."

تذكرني مقولة جبران بما وصلت إليه أوضاعنا في الشرق الأوسط حينما قبلنا أن نكون نصف كل شيء، لذلك نصف حياتنا لم نعشها، بل فضلنا نصف الموت، بل فضلناه أيضا للآخرين، وحتى نصف كلمة لم نقلها، بل وحتى نصف إبتساماتنا أجّلناها، وأيضا نصف الحب عندنا مشوه، لنحب بإنفعال مريض، ولنكره بغضب سقيم، وحتى نصف صداقاتنا متذبذبة وزائفه، بل ولتجعلنا غريبين عن أقرب الناس إلينا، وأما نصف أهدافنا مهلهلة، كما أن أعمالنا نصف عمل، إن لم تكن ربعه، بل لتترافق بإنتاجية وإبداع قريبين من نصف الصفر، وحتى العربي المسلم المبدع الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل حقيقة في علوم العصر، مات وكفر ومنع الترحم عليه. فلم نعد نعرف إن كنا نصف نحن، أم نصف لا نكون نحن، لذلك خسرنا كل شيء، قبلنا نصف الحقيقة لنرفقها بنصف كذبة، مارسنا نصف أخلاق لنحقق نصف إصلاح، رضينا لأنفسنا بنصف، إنسان لنعيش نصف حياة، صارعنا لنصف مذهب، لنعيش نصف طائفة، وحينما لهثنا لنستغل نصف دين مع نصف سياسة إنتهينا بنصف أسلمة، بل وقسمناها بين ربع ثيوقراطية ظلامية، وربع خلافة داعشية، ولننتهي لنصف عراق، وربع الشام، وثمن اليمن. كما رفعنا نصف شعار لحماية المستضعفين وتحرير فلسطين، لنحقق نصف حلم مرعب، فخلقنا اثني عشر مليون لاجئ، ونشر نا الخرافات والجهل والفقر. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: أين أوصلنا نصف سلوكنا وأخلاقياتنا؟ وحينما استغلينا نصف دين مع نصف سياسة، هل حققنا نصف إسلام؟ وما الذي حققته الدول الإسلامية بنصف نصف مع نصف نصف، ومع ضرب نصف النصف بنصف النصف؟ هل خلقنا جيل نصف النصف؟ وهل ضيعناه في واقع نصف النصف؟

بعد أن عشت أكثر من عقد من الزمن كدبلوماسي في اليابان، وأنا أراقب بتمعن أين وصل اليابانيون، حينما قرر هذا الشعب أن يفصل فصلا مطلقا الدين عن السياسة. طبعا بعد تجربة قرون طويلة مريرة، من بلد منقسمة إلى مئات من الولايات الصغيرة المتحاربة، مع تناحر طائفي مدمر، ليؤمنوا اليابانيون أخيرا، بأن رجل الدين مسئول عن معبده، ورجل السياسة مسئول عن برلمانه، وأما الوعظ والإرشاد، والإغراء بالجنة أو التخويف بالنار، ليس له موقعا في المجتمع الياباني. فقد استبدل منبر الوعظ، بمنار العلم، وتعليم سلوك أخلاقي إنساني، بعيد عن الرياء والجدل، يجمع بين الصدق، واحترام الوقت، وتقديس العمل، مع الاهتمام بالعلم والتكنولوجيا، لتطوير صناعة مبدعة، ولتحقيق اقتصاد متقدم عادل وشامل. في الوقت الذي يحزنني ما وصلت اليه دول الشرق الأوسط، بعد أن خلط الحابل بالنابل، وبعد أن خلط الدين بالسياسة، ليريد خطيب المنبر أن يحكم، الدولة والبرلمان والحكومة. وليسمح لي عزيزي القارئ أن أطرح السؤال التالي: بعد أربعة عقود من تجربة خلط السياسة بالدين في منطقة الشرق الأوسط، هل فعلا حولت الحركات السياسية "المتأسلمة" مجتمعاتنا لدول إسلامية؟

للجواب على هذا السؤال لنتدارس عزيزي القارئ بحث مهم جدا لمنطقة الشرق الأوسط، نشرته جامعة جورج واشنطن الأمريكية المشهورة. فقد كتب الباحاثان شهرزاد رحمن، وحسين عسكري، الباحثان بجامعة جورج واشنطن الأمريكية، في مجلة الاقتصاد العلمي، بحثا بعنوان، ما مقدار أسلمة الدول الإسلامية؟ يقولان فيه: "في عصر الحادي عشر من سبتمبر، تزايد الاهتمام بالعلاقة المعقدة بين الدين والاقتصاد والمال والسياسة والقانون، ومع السلوك الاجتماعي. وقد أدى ذلك للاختلاف عن كيفية البحث عن تأثير التدين، فهل يؤثر الدين على الاقتصاد، مع التأثير على النظرتين السياسية والاجتماعية؟ بل هل تؤثر هذه العوامل على التدين؟ وبمعنى آخر هل يجب أن ينظر للدين كعامل مؤثر أم غير مؤثر في المجتمع؟ وهل الدول الإسلامية تتبنى السياسات التي تأسست على تعاليم الدين الإسلامي؟ فبجواب هذه الأسئلة قد نستطيع أن نقيم مدى تأثير التأسلم (التمسك بتعاليم الإسلام في الأخلاق والسلوك) على السلوك الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وسنشرح في القسم الأول من هذا البحث ما يجب أن تكون دولة تعتبر نفسها إسلامية، حسب المراجع الإسلامية، وفي الجزء الثاني طورنا مقياس لقياس درجة أسلمة الدول الإسلامية (المنظمة لمنظمة المؤتمر الإسلامي)، والدول الغير الإسلامية. لقد أصبح الإسلام مؤخرا تحت المجهر، وعلينا ان نكون حذرين في كيفية تقيم الإسلام، فهل نقيمه بسلوك من ادعوا بأنهم مسلمين، ام بالتعليمات الإسلامية؟ وما مدى تطبيق السلوك الأخلاقي الإسلامي في الدول التي تدعي بانها إسلامية؟ فهل فعلا هذه دول إسلامية؟ ونعتقد بانه حينما نناقش هذ الأسئلة نستطيع ان نقرر ان كان الإسلام يعرقل او يعزز التطور البشري والتناغم الإنساني والتقدم الاقتصادي؟"

ولقد بينت نتائج هذه الدراسة: بأن التعاليم الإسلامية كتعاليم أي دين آخر في الممارسات الاقتصادية والاجتماعية والقضائية والسياسية، كما تتساوي في ممارسة وتوصيات المؤسسات المرشحة، كما تبين من خلال هذا البحث بأن مفاهيم التطور البشري والاقتصادي في الإسلام، تتوافق مع المفاهيم المعاصرة الغربية، ولتشمل أهمية العمل، واقتصاد السوق، والمشاركة، والتنافس، ودفع الضرائب (للدولة وليس لخطباء المنابر)، ونظام مالي للحكومة، وسلوك المؤسسات المالية، مع القضاء على الفقر، مع تأثير الصرف الاقتصادي والاجتماعي على الفقر، وعدالة توزيع الدخل الوطني، والممارسة الصحيحة للملكية الخاصة، وتطبيق القانون، مع إدارة الموارد الطبيعية، والتصرف الإنساني العادل والمتساوي مع غير المسلمين، والإرث ورعاية الطفولة، والحكم العادل والجيد، والاهتمام بالقراءة، والحقوق المدنية للرجال، وتنفيذ العقود والعهود. كما قسم البحث التعاليم الإسلامية الى خمسة: أولا علاقة الانسان بخالقه وأعمال المواطن حسب المسئوليات الإنسانية، وثانيا النظام الاقتصادي والسياسات والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، وثالثا النظام القضائي والحكومة، ورابعا حقوق الانسان والحقوق السياسية، وخامسا العلاقات الدولية وخاصة مع الدول غير الإسلامية.

وقد بينت نتيجة هذه الدراسة بأن الدول الاوربية الغير اسلاميه هي التي فعلا دول إسلامية، بينما ما تسمى بالدول الإسلامية، ليس لها علاقة بتطبيق قيم وأخلاقيات السلوك الإسلامية. فمثلا قد يتساءل قارئنا العزيز: من هي أكثر الدول التي تطبق تعاليم الدين الاسلامي في العالم من خلال هذا البحث؟ لقد حصلت على المرتبة الأولى نيوزيلندا، والمرتبة الثانية لكسومبورغ، والمرتبه الثالثة إيرلندا، والرابعة ايسلاندا، والخامسة فينلاندا، والسادسة هي الدينمارك، والسابعة كندا، والثامنة بريطانيا، والتاسعة استراليا وهولاندا. وبعد ذلك كان ترتيب النمسا الحادي عشر، والنرويج الثانية عشر، وسويسرا الثالثة عشر، وبلجيكا الرابعة عشر، والسويد الخامسة عشر، والبرتغال السادسة عشر، والمانيا السابعة عشر، وفرنسا الثامنة عشر، واسبانيا الثالثة والعشرين، والولايات المتحدة الخامسة والعشرين، أما هونج كونج فكانت السبعة والعشرين، واليابان التاسعة والعشرين، وسنغافورة السابعة الثلاثين، وإسرائيل الواحد والستين. فتلاحظ عزيزي القارئ بأنه ليس بين العشر دول الأولى أية دولة إسلامية تطبق تعاليم السلوك الأخلاقية في الإسلام. ولو ألقينا النظر على باقي القائمة فلن نجد أية من الدولة الإسلامية في الخمسين دول الإولى، إلا دولة الكويت ليأتي ترتيبها الثامنة والأربعين عالمياً والثانية على المسلمين والاولى عربيا، وماليزيا في المركز الثامنة والثلاثين عالمياً والاولى على المسلمين، والبحرين في المركز الرابعة والستين عالمياً والثالثة على المسلمين والثانية عربياً، والامارات في المركز الستة والستين عالمياً والثالثة عربياً، وبقت الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الآخر بالمرتبة المائة والثلاثة والستين عالميا. ويبقى السؤال: هل إنشغل رجال الدين في الشرق الأوسط بالسياسة والحكم، ونسوا تعاليم سلوك الأخلاق الإسلامية، لتنتهي الدول الإسلامية بترتيبات مخزية؟ وهل حان الوقت لينفصل الحابل عن النابل، فيتفرغوا رجال الدين لتعاليم دينهم، ورجال السياسة لقوانين برلماناتهم، ولينفذ الجميع أنظمة دستورهم، بسلوك أخلاقي إنساني؟

ولننهي مقالنا بتعليق من أحد علماء ديننا الأفاضل بمملكة البحرين على هذا البحث، ليقول: "فقد كان القياس في هذا البحث من خلال إنعكاس القيم الدينية علي سلوك الناس ومعاملاتهم. أما بالنسبة للعبادة، فهذا شيء بين العبد وربه، ولا يستطيع قياسه الا الله سبحانه وتعالى. فهذا نموذج عن كيفية التقييم والقياس الصحيح، وقد قال الرسول الأعظم: (أنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.).. أما حصول الدول الاسلامية على المراتب الدنيا شيء طبيعي، لأنه لو كنا نطبق تعاليم الدين الإسلامي في حياتنا العملية، لما كنا في هذا الوضع المزري. فمتى سنعرف أن الدين ليس لحيه ولا مسبحة ولا صرخة ولا عمامة ولا حفظ لآيات وأحاديث لا نطبقها، ولا خرافات ولا كهنوت ولا مناطقية ولا حزبية ولا عنصرية ولا طائفية، ففي الدين الاسلامي لا فرق بين أبيض ولا أسود الا بالتقوى. وإنما فيه أن المعاملة بين الناس واجبات وحقوق، تسامح وتراحم، إحسان ورفق ومودة، علم وعمل ومثابرة وجد واجتهاد وإنتاج وإبداع. عندما نعرف ذلك حينها سيحدث التغيير، وسترتفع مكانتنا بين أنفسنا وبين شعوب العالم." ولنا لقاء.

&

سفير مملكة البحرين في اليابان