الثورة في لغة العرب، الهيجان والغضب وانفجار البركان، ومنها الثور لأنه يندفع بقرنيه هائجاً نحو هدفه، ربما اصطدم بجدار، او قطعة قماش، المهم أنه يركض ويصطدم. لغات العالم قصدت التحول في حين أن لغة العرب نظرت الى الفعل نفسه "الهياج" وليس ما ينتج عنه. ثار يثور ثر ثوراناً فهو ثائر = هاج يهيج هج هياجاً فهو هائج، ومن الهيجان الريح حين تهب على النبات فيصفرّ وييبس! أصحاب لغة الضاد أصابوا الدلالة، وعرّفوا الفعل باشتقاق دقيق يدل على فعل حيوان تحرك غضبه وخرقة قماش حمراء، وإن صح أن الثور لا يرى الألوان، فإنه يعني أنه لا يغضب للون الأحمر، بل لقطعة قماش يحركها عابث.

في الحديث عن الثورة وغواية الفرنسيين، نعود قرنين الى الوراء، الى "قصة مدينتين" للروائي الإنكليزي شارل ديكنز، والذي قدم فيه مقاربته بين باريس التي ثار فقراؤها على مضطهديهم فصنعوا مقاصل الرعب، ولندن التي كاد فقراؤها أن يثوروا لكن ثورة اشقائهم جنوب المانش لقنتهم درساً بقبح الثورات. يقول ديكنز "عندما كان الملك لويس على عرشه كانت الطرقات في فرنسا بحالة سيئة. وكانت العربات والجياد سيئة أيضا. أما الان بعد الثورةـ فكانت هناك صعوبات إضافية. كل مدينة وكل قرية لها مجموعتها من (الوطنيين) المسلحين بالبنادق الذين يوقفون القادمين والذاهبين... كما يحلو لهم. وكل ذلك باسم (الحرية والمساواة والإخاء) وجمهورية فرنسا الجديدة".

وتستمر المقارنة بين العاصمتين اللتين تنافستا على الاستعمار. الأولى مدينة الموضة والعطور والفلسفات المجنونة وانتفاضة طلاب 68 وصراع الوجودية مع الشيوعية مع اليمين، بلد الجمهوريات الخمس التي احتلها هتلر في أسبوعين فقط، كثير من حكامها بعد ديغول مثيرون للسخرية، والثانية مدينة محافظة لا ثورات فيها ولا انتفاضات، شعبها مؤخرا قرر تغييرا مزلزلا لكن بدون قطرة دم، بل عبر الاقتراع حين صوت للخروج من الاتحاد الأوربي، ما تزال تحترم كنيستها، لكن لا دور سياسي لهذه الكنيسة، شعبها، كما يروي من يعيش معه، قادر على الوقوف في طابور الانتظار لوقت طويل دون أن يمل، يعيش فيها اليوم مئات الألوف من العاملين الفرنسيين فيها، وأيضا قاومت هتلر ستة أعوام فمنعته من أن يضمها لصليبه المعقوف.

الفرق بين لندن وباريس البائستين نهاية القرن الثامن عشر هو الفرق بين الاعتماد على الزمن "الصبر" والثورة. باريس ظلت أسيرة التحولات نحو علمانية متطرفة، بينما تصنع لندن التحولات بعلمانية معتدلة. باريس امتلكت جنون سارتر اما لندن فامتلكت عقلانية راسل، سارتر الشهير بات مرحلة مع الزمن بينما راسل ما يزال متجددا رغم الزمن. الصبر والزمن متكاملان، أما الثورة والزمن فهما خصمان ثأريان. الثورة تسعى للقفز على الزمان، بينما الأخير قوي قوة البحر أمام سفينة خشبية يقودها قبطان طامح.

ولأننا نحب المظاهر، وقليلو صبر، وباحثون عن انتصارات سريعة، عاكسنا الزمن، فغوتنا الثورة أكثر من مرة، أطاحت بنا لأنها تقول لنا تعالوا لأعيدكم شباباً بإكسير الفوران العظيم. لكن الإكسير المزعوم قناع لشعور انتقام لا يمكن أن يصنع إصلاحاً مهما آمن بقيم العدالة والحرية وإنقاذ البشر.