منذ الستينيات وحتى الثمانينيات من القرن الماضي كانت وزارة الخارجية الأميركية تعلن تقريراً سنوياً تندد فيه بقوة بجموح الاتحاد السوفياتي في التسلح، وتؤكد أن الإنفاق على التسلح في الإتحاد السوفياتي يتجاوز ميزانية وزارة الدفاع ليشمل مختلف صنوف الإنتاج في الاتحاد السوفياتي الموجه للعسكرة أساساً. كان الشيوعيون، وأنا منهم، يكذّبون ذلك ويرونه تبريرا لانغماس الولايات المتحدة في إنتاج الأسلحة وتقنيات الحروب، وكانت من بعض سياساتها، إلى أن أزيحت الغشاوة عن عيني ورأيت الحقائق كما هي، وتفهمت حقيقة شكوى وزارة الخارجية الأميركية المتكررة.&

لنا أن نؤكد في هذا السياق، على خلاف ما يعتقد عامة المتمركسين، أن الأسلحة ليست من البضاعة التي يتمثل بها فقط إنتاج النظام الرأسمالي، وهي لا تصل إلى السوق للعرض ولا يمكن شراؤها من قبل العامة ومن الطبقة العاملة على وجه الخصوص، فالأسلحة لا تستهلكها الطبقة العاملة كيما تستعيد قوى العمل التي فقدتها في الإنتاج والتي على مقدار قيمتها الاجتماعية تتحدد الأجور. المشتري الوحيد للأسلحة هو الدولة وتدفع ثمنها من الضرائب التي تجنيها من الشعب ومن الرأسماليين على الأخص. الضرائب التي تتكلف بها الطبقة العاملة ليست من ضمن الأجور بل هي أساساً من فائض القيمة حصة الرأسمالي حيث الضرائب لا تعمل قيد أنملة في استعادة قوة العمل من جديد للعامل. من هنا بتنا نرى الأحزاب الممثلة للرأسماليين، كالجمهوريين في أميركا والمحافظين في بريطانيا، تطالب دائماً وأبداً بتخفيض الضرائب بالعكس من أحزاب العمال. أضف إلى ذلك أن الدولة تشتري احتياجاتها من السلاح بأنواعه وفق شروط طارئة ولذلك لا تستطيع المصانع التي تنتج السلاح أن تعمل باستمرار وهو ما لا يتوافق مع نظام الإنتاج الرأسمالي.

لكل هذه الأسباب نستطيع أن نؤكد أن النظام الرأسمالي لا يجنح إلى إنتاج الأسلحة قبل أن تمسك بخناقه أزمة كساد طاحنة ؛ إذاك فقط يكون علاج الأزمة إنتاج السلاح حيث أجور الإنتاج لا تنفق في شراء المنتج أي الأسلحة. إستخدام إنتاج السلاح كعلاج لأزمة النظام الرأسمالي يدل دلالة قاطعة على أن نظام الإنتاج الرأسمالي الكلاسيكي النموذجي لا يميل إلى إنتاج الأسلحة فالجسم السليم لا يحتاج إلى تناول الأدوية. من هنا يمكن الجزم بأن الولايات المتحدة لم تدخل في سباق للتسلح ليس لأن نظامها الرأسمالي لا يمكنها من ذلك فقط بل لأنها أيضا تعلم تماماً أن الاتحاد السوفياتي لن يعتدي عليها أو على أي دولة أخرى كما كان ستالين قد أكد ذلك في العام 1949.

الدلالة القطعية على أن ما جرى اعتباره سباق التسلح لم يكن إلا مجرد خديعة تغطي أفعالاً دنيئة يقوم بها أناس أراذل يحرصون على ألا تُكتشف رذالتهم وهم العسكر طليعة طبقة البورجوازية الوضيعة، الدلالة هي أن جميع الذين تحدثوا عن سباق التسلح في السبعينيات والثمانينيات لا يعلمون البتة متى بدأ جموح الإتحاد السوفياتي إلى التسلح.

الخطة الخمسية الخامسة التي وافق عليها المؤتمر العام للحزب الشيوعي التاسع عشر في نوفمبر 1952 عُنيت بمضاعفة الإنتاج المدني والصناعات الخفيفة لأجل رفاه الشعب الذي عانى كثيراً بسبب الحرب، بل وقبل ذلك من أجل إحياء طبقة البروليتاريا التي كانت قد تكبدت الخسائر الأعظم في الحرب؛ تلك الخطة كانت قد بدأت بتفوق في العام 1951 لتنتهي في العام 1956 وقد غدا الاتحاد السوفياتي يسبق جميع الدول بما في ذلك الولايات المتحدة بمجمل الإنتاج المحلي فيتأكد انتصار الاشتراكية الحاسم ليس في الاتحاد السوفياتي فقط بل وعلى صعيد العالم أيضاً مثلما توعد ستالين رداً على تشكيل حلف الناتو أو شمال الأطلسي.&

في عشية الأول من مارس آذار 1953 أغتيل ستالين بالسم ولم يفارق الحياة قبل مساء الخامس من مارس. في صبيحة اليوم التالي اجتمع كهول المكتب السياسي وعددهم سبعة بعد موت ستالين وقرروا إلغاء عضوية إثني عشر عضوا جديدا في المكتب السياسي كان ستالين قد طالب مؤتمر الحزب بانتخابهم من أجل كما قال.. "كي نطمئن على مستقبل الثورة" وهو من كان قبل الانتخابات قد طالب المؤتمر بعدم انتخاب جميع أعضاء المكتب السياسي وقد باتوا " عجزة مقصرين لن يوصلوا المجتمع إلى الشيوعية " وللتأكيد على هذا المنحى طالب ستالين بعدم انتخاب ستالين نفسه أيضاً. وهكذا، قبل أن يبرد جثمان ستالين تحققت هواجسه. بل زاد أولئك العجزة في المكتب السياسي في ذلك إذ دعوا اللجنة المركزية للإجتماع في سبتمبر ايلول لتقرر " أن الخطة الخمسية التي تقتضي تحويل الاقتصاد الوطني إلى الصناعات الخفيفة تعرّض أمن الإتحاد السوفياتي للأخطار "!! من قرر ذلك القرار الخطير؟ طبعاً جنرالات الجيش وليس خروشتشوف الذي اعترف في مذكراته على أنه لا يخشى أحداً إلا جنرالات الجيش - وهم الذين هددوه في أكتوبر 1964 بالقتل او بالاستقالة فاختار الاستقالة تأكيداً لجبنه. كسراً للقانون قررت اللجنة المركزية التي كان مؤتمر الحزب العام قد انتخبها لتطبيق الخطة وإنجازها قبل عشرة شهور فقط، قررت إلغاءها وتحويل الاعتمادات المقررة لانجازها إلى إنتاج الأسلحة. مذاك اليوم الأغبر في تاريخ البشرية بدأ جموح الاتحاد السوفييتي في التسلح الأمر الذي لاقى احتجاجاً شديداً من جيورجي مالنكوف جعله يستقيل من منصب الأمين العام للحزب حيث كانت حجة الخطر على أمن الاتحاد السوفياتي ليست إلا خديعة تهدف إلى استيلاء العسكر على الدولة وتبديد مواردها على إنتاج أسلحة لا قيمة استعمالية لها طالما ليس هناك قوى في العالم تشكل خطراً على أمن الاتحاد السوفياتي وقد ثبت في الحرب العالمية أن الإتحاد السوفياتي كان المارد بتعبير تشيرتشل وأن الدول الغربية الكبرى لم تكن أكبر من أقزام.

لم يكن أحد في العالم يتحدث عن سباق التسلح بين أميركا والاتحاد السوفياتي في العام 1953 حين جمح الاتحاد السوفياتي للتسلح كما جاء في بيان اللجنة المركزية في سبتمبر ايلول، ولم تكن أميركا تلقي بالاً لتقدم الاتحاد السوفياتي في صناعة الأسلحة بفارق 10- 15 سنة إذ مع بداية الخمسينيات ظهرت الطائرة المقاتلة ميغ 14 وكانت أعجوبة العصر دفعت الولايات المتحدة لإعلان جائزة بقيمة 15 ألف دولار لمن يهرب بطائرة من هذا الطراز من الحرب في كوريا إلى اليابان. أما الصدمة الثانية فكان قمر سبوتنك يغزو الفضاء في أكتوبر 1957. ليس لدي أدنى شك في أن روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي ما زالت تسبق الولايات المتحدة في مجال الأسلحة خلافاً لما يعتقد العامة.&

الدرس الأول الذي تعلمه العسكر السوفييت من ستالين هو أن العسكرة ضد الإشتراكية كما الإشتراكية ضد العسكرة. وعليه فما إن لفظ ستالين أنفاسه الأخيرة حتى تقدم العسكر ضد الإشتراكية. لقد رأوا بحق أن تحقيق الخطة الخمسية الخامسة 1951 – 1956 ستؤكد انتصار الاشتراكية الحاسم والنهائي وهو ما يعني تحويل عشرات المارشالات ومئات الجنرالات إلى مجرد عمال بالرغم من كل الأوسمة من كل الدرجات والألوان التي تغطي صدورهم، وكانوا قد امتثلوا بعد نهاية الحرب العالمية مباشرة وقد ظهر فيها نبوغ المارشال جيورجي جوكوف في العمليات العسكرية كان آخرها احتلال برلين وقد طبقت شهرته آفاق العالم، امتثلوا بتعيين ستالين له في وظيفة إدارية في الأورال شرق روسيا بينما ارتقى الجنرال ايزنهاور إلى رئاسة الدولة الأميركية وهو الذي لم يسجل باسمه أية انتصارات في الحرب.

العسكر الذين كانت كل مقدرات البلاد بأيديهم زمن الحرب حتى بوجود ستالين فكيف لهم أن يستكينوا وستالين لم يعد موجودا!! لعل السيئة الوحيدة في ستالين هي أنه كان شخصية اسطورية كما رآه ونستون تشيرتشل، وقائد العالم كله كما رآه فرانكلين روزفلت، والقوقازي العجيب كما رآه لينين ؛ قائداً بمثل هذه القامة لا يأتي في الدرجات العشرة بعده أي رجل آخر في العالم وليس في الاتحاد السوفياتي فقط. ولهذا تمكن العسكر حال رحيله من اختطاف الدولة، دولة دكتاتورية البروليتاريا لتمسي دولة دكتاتورية العسكر، والعسكر لا يمتهنون مهنة أخرى سوى العسكرة وإنتاج الأسلحة. هم لم يفككوا المشروع اللينيني في الثورة الاشتراكية العالمية فقط، وهو ما كان وما زال هدفهم الرئيسي، بل دمروا أيضاً أقوى وأكبر وأغنى دولة في العالم، دولة كانت في العام 1961 أغنى دولة في العالم بعد الولايات المتحدة وهي اليوم تراجعت إلى صف دول العالم الثالث تعتاش على تصدير المواد الخام كالنفط والغاز. كان الروبل السوفياتي في الستينيات يعادل 1.5 دولار واليوم الدولار وقد انخفض عشرين ضعفاً يعادل 65 روبلاً ؛ هذا ما تفعله صناعة الأسلحة ؛ إنتاج الأسلحة في روسيا فعلت ما تفعله اليوم الخدمات في أميركا فالمنتوجات في كلتا الصناعتين لا قيمة تبادلية لها.

جموح الدولة السوفياتية منذ العام 1953 إلى العسكرة وإنتاج الأسلحة دون توقف حتى اليوم إنما هو الإجراء الوحيد والسياسة الوحيدة المعادية للإشتراكية عدوة العسكرتاريا. إنه أيضاً العدو للنظام الرأسمالي الذي بالطبع لا يمكّن العسكر فيه من فرض شروطهم على المجتمع الأمر الذي لا يدركه المتمركسون. المخابرات السوفياتية وقد عملت طليعة العسكرتاريا منذ الثلاثينيات واقترفت جرائم شنيعة ضد الشيوعيين، هي من قاد الانقلاب ضد الاشتراكية في الخمسينيات وهي من ألغى الخطة الخمسية الخامسة وهي من قام بانقلاب عسكري ضد الحزب في العام 1957، وانقلاب عسكري آخر ضد الحزب في العام 1964 وهي التي نصبت رجلها بوريس يلتسن رئيساً للدولة بانقلاب عسكري مفضوح في العام 1991، وهي التي فككت اتحاد الجمهوريات السوفيتية، وهي التي جاءت بضابط المخابرات السابق فلاديمير بوتين خليفة ليلتسن.

استشرست المخابرات السوفياتية في مقاومة الاشتراكية فمدت يدها إلى خارج الإتحاد السوفياتي تحارب الإشتراكية، فجاءت بالهواري بومدين بانقلاب عسكري ضد الاشتراكي بن بللا في العام 1965، وجاءت بحافظ الأسد بانقلاب عسكري في سوريا في العام 1970 ضد الاشتراكي صلاح جديد. ثورة التحرر الوطني العربية كان لها رجع صدى في موسكو لا يتحمله أعداء الإشتراكية ويشكل خطراً حقيقياً عليهم فكان أن كلفت المخابرات السوفياتية هذين العسكريين المغمورين بخنق الثورة العربية في جناحيها الجزائر وسوريا وكان لها ذلك حيث ساد القمع في الدولتين. وفي هذا السياق لا أستطيع إلا أن أفترض أن المخابرات السوفياتية قد شاركت في نكسة حزيران 67 ونحن نعلم أن عبد الناصر قد أنب بريجينيف على موقف السوفيات من الحرب في اجتماع مغلق لهما في فبراير شباط 1970، ويرجح أن المخابرات ىالسوفياتية قد شاركت في موت عبد الناصر المبكر، خاصة وأن خروشتشوف وكان الناطق الرسمي باسم المخابرات قد شكا من الزعماء الوطنيين ووصفهم بالمغامرين في المؤتمر العام للحزب 1959 وطالب بوضع خط فاصل بين الثورة الاشتراكية وثورة التحرر الوطني خلافاً للمبدأ اللينيني القائل بالوحدة العضوية للثورتين.

الجموح نحو التسلح إنما هو ثورة مضادة للثورة الاشتراكية وضد الأمن الوطني عكس ما يعتقد الجميع. لكن الثورة المضادة لا تمتلك نظاماً إجتماعياً يحمل الشعوب في علاقات إنتاج مستقرة ومتنامية وعليه ستبقى جذور الاشتراكية في الأرض في انتظار ربيعها القادم لتورق وتزهر وتثمر ولن يستطيع كل مارشالات وجنرالات العالم من خلع جذورها عميقة في التربة.&