&&انتشر مصطلح المدنية في الأدبيات السياسية العراقية خلال السنتين الأخيرتين، بعد ان رددته حناجر المتظاهرين والمحتجين في ساحة التحرير ببغداد وبقية ساحات التظاهر في مدن العراق، ولعل ترديد شعار ( خبز، حرية، دولة مدنية) في مطاليب مسيرات التظاهر، كان السبب في شيوع استخدام المدنية في مقالات واحاديث الكتاب وبعض السياسيين.

&عراقيا استثمر شعار( المدنية) بعد انتشاره كأنشودة مطلبية لثورات الربيع العربي ضد الأنظمة الدكتاتورية المتكلسة مثل مومياوات في توابيت السلطة، لكن المتظاهر العراقي ونتيجة تكاثر الميليشيات وفوضى السلاح، وجد في شعار المدنية مطلبا ً مضافا ً لجملة مطاليبه الأخرى في توفير فرص العمل وتوفير الخدمات، ومحاسبة الفاسدين وإصلاح القضاء وحكومة التكنوقراط وغيرها من المطاليب المتكاثرة.

&ارتفاع شعار المدنية في تظاهرات الجمهور المديني واليساري، في يوم الجمعة أو مناسبات أخرى، تعلن غياب دولة القانون والمساواة والسلام الإجتماعي واحترام الآخر المختلف، كما تنعي الديمقراطية وتندد بسطوة رجال الدين على السلطة وانعدام ثقافة المواطنة والتآخي، بمعنى آخر أن الجمهور المتظاهر يؤكد عودة الحياة الى مراحل البؤس والظلام وانعدام الحريات والحقوق، تلك هي المفارقة التي يعيشها الواقع العراقي (الديمقراطي ).

&السؤال هنا؛ هل بأمكان هذه التظاهرات الداعية للمدنية والتغيير قادره على انجاز التغيير في التظاهر السلمي لبضعة مئات أو آلاف، وتحقيق مبادئ المدنية المشار لها أعلاه؟

&يسقط العقل السياسي التحليلي في مجرى الوهم أو تلبس الخيال الرومانتيكي الحالم، حين يفكربثورة تغيير سلمية تحدث في واقع سياسي ملتبس ومتداخل، تهيمن فيه إرادات أحزاب الإسلام السياسي والمليشيات المسلحة وجملة تابوات ومناخات إجتماعية تنعدم فيها الثقافة الوطنية الحرة، وتلبد أجوائها أبخرة التطرف الطائفي.

&الشيء الآخر المهم، أن العملية السياسية الجارية منذ 13 سنة من الجحيم العراقي، منتوج مشترك لجملة إرادات وإجندات دولية وخارجية، أتفقت على بقاء عراق مفكك ضعيف مقسم نفسيا ً وطائفيا وقوميا ً، ومرجل دائم يفور بالصراعات والتشاحنات ومبادئ التشكيك والخلاف التي تجهض أي مشروع لوحدة موقف شعبي ووطني، مايجعل صوت الإحتجاج والتظاهر (المدني) ضعيفا ً واهنا ً، لايشكل تهديدا لمصالح وتوزيع الأدوار للقوى السلطوية المحلية ومرجعياتها الخارجية.

&أمر آخر كان يستدعي التفكير من قبل النخبة السياسية والثقافية القائمة على التظاهرات والتنسيقيات، أن البلاد تفتقر لوحدة السلطة السياسية والتنفيذية أيضا ً، بل أن مشروع السلطة الذي تتمسك به الأحزاب الحاكمة وميليشياتها، يمثل في عمقه مشروعا ً تجاريا يقوم على النهب والسرقة، والتقسيم المذهبي والطائفي الذي يفكك قواعد المواطنة العراقية، وهكذا تشكيلات مافوية قوية ومتحكمة بالمال والقضاء والإعلام والجزء الأكبر من الشارع الطائفي، لا تتأثر بأصوات إحتجاجية تطلقها بضعة مئات من الوطنيين والمعترضين الأحرار.

جرائم بشرية وكوارث اجتماعية وانهيارات ثقافية واخلاقية وفساد سياسي وإداري ومالي، مصايب ونكبات تحتشد مع بعضها في 13عاما ً من القسوة والعنف والأرهاب لم تستطع ان تجمع الشعب في بوتقة موقف موحد أزاء مطاليبه الوجودية، فهل تقدر على ذلك اصوات مئات من المحتجين المسالمين؟

أصبحت المنادات بالديمقراطية والمدنية والمواطنية، أبعد من الحلم وأقرب الى المحرقة في بلاد تتفرج على مأساتها بصمت وخذلان، بلاد تتلذذ بحرق دواوين شاعر معارض في احتفال تهريجي، ولاتخرج سوى شمعة لحرق الخدج في المستشفى.