&

إن أهم قانون ينظم المجتمع، أي مجتمع، بل هو القانون الأساس والوحيد الذي تقوم عليه وحدة المجتمع المستقرة هو تبادل السلع والخدمات بين مختلف المنتجين وهو ما يتم في إطار علاقات الانتاج ؛ ويتم هذا التبادل الضروري والجوهري في حياة الشعوب في مجتمعاتها المختلفة بمعيار قيمتها وليس بغير ذلك. وللاستدلال على مقدار القيمة استخدمت النقود بدءاً بالنقود المعدنية كالذهب والفضة التي تحمل القيمة بذاتها وتدل على القيمة بدقة متناهية ثم النقود الورقية السندات المكفولة من قبل السلطة التي تصدرها موقعة رسمياً منها باعتبار أن هذه السندات وبما تحمل من قيمة اسمية قابلة للتحويل إلى ذهب متى شاء حاملها من الجهة الموقعة صاحبة السندات. هذا قانون دولي في موضوع النقد لا يجوز كسره أو مخالفته. أما لماذا تمثلت قيمة مختلف الأشياء موضوع التبادل بالذهب أو الفضة فلأن هذين المعدنين هما من أغلى البضائع حيث يحملان ذاتياً الجهد الأكبر من قوى العمل بما يتناسب مع أي كتلة منهما. لذلك كان الذهب أو الفضة هو البضاعة المقياس العام (Universal Standard). ثمة قاسم مشترك بين أية بضاعة والذهب وهو ساعة/عمل بالمعدل – هذا ما لا يجوز إغفاله في أية مقاربة إقتصادية.

في استعداد ألمانيا الهتلرية للحرب وتوجيه كل القدرات الصناعية الهائلة لألمانيا الرأسمالية المتطورة لإنتاج الأسلحة الحربية التي هي ليست من البضاعة ولا قيمة تبادلية لها، أي أن الأموال التي أنفقت في إنتاجها هي أموال هالكة لا تعود بشيء على المجتمع وعلى أصحابها بغير القتل والتدمير، ولتغدو أجور العمال الذين عملوا في إنتاجها ماركات لا قيمة تبادلية لها، حيث الأسلحة لا تغطي النقود وقد تبدى هذا في انهيار الإتحاد السوفياتي فبعد أن كان الروبل السوفياتي يعادل 1.5 دولار أميركي فيما قبل الإنقلاب على الإشتراكية بات اليوم الدولار يعادل أكثر من 60 روبلاً روسياً وذلك لأن الإتحاد السوفياتي فيما يعد الإنقلاب على الإشتراكية قد أصبح أكبر منتج للسلاح في العالم وما زالت روسيا اليوم تنتج المزيد من السلاح ليس من أجل تحصين أمنها الوطني بل لأن إنتاج السلاح الذي لا يعود بأية فائدة على الشعب هو الأسلوب الوحيد الذي يحمي البورجوازية الوضيعة من خطر الاشتراكية.

إزاء ذلك الإخلال الهتلري بقانون النقد الدولي دعت الولايات المتحدة في معمعان الحرب على هتلر إلى مؤتمر دولي عقد في منتجع بريتون وودز في ولاية نيوهامبشاير في يوليو تموز 1944 حضره 47 دولة مستقلة وشبه مستقلة معادية للنازية، وكان أهم قرار اتخذه ذلك المؤتمر هو إلزام الدولة أن يكون لديها من الذهب ما يعادل 20% من كتلتها النقدية وهو الضمانة لقيمة نقودها وقابلية تحويلها إلى ذهب.

في العام 1968 لاحظ الجنرال الفرنسي شارل ديجول، وهوالوطني الغيور، أن الولايات المتحدة قد أُنهكت مالياً بفعل حربها في فيتنام ولم يعد لديها الغطاء الكافي للدولار فطالب الولايات المتحدة باستبدال احتياطي فرنسا من الدولار بالذهب. في العام 1971 ضغط الانفاق على الحرب في فيتنام على القدرات المالية للولايات المتحدة فكان أن اضطرت إدارة نيكسون إلى سلوك مسلك هتلر للإنفاق على الحرب في فيتنام فأعلنت إنسحابها من المعاهدة التي كانت هي قد بادرت إلى عقدها، معاهدة بريتون وودز، كي تتمكن من طباعة دولارات بلا غطاء ذهبي، وبذلك يفقد توقيع وزير الخزانة على الدولار كل معنى. في العام 1972 هبط سعر صرف الدولار في أسواق الصرف هبوطاً مريعاً فكان أن اضطرت إدارة نيكسون إلى إعلان خفض قيمة الدولار (Devaluation)، إلا أن ذلك لم يؤدِ إلى نتيجة واستمر الهبوط المتسارع في العام 1973 مما أرغم الإدارة الأميركية على إعلان خفض قيمة الدولار مرتين. كل إقتصادي فطين يعلم إزاء هذا الإنحدار المتسارع لقيمة الدولار أن الأمر ليس كله بسبب الحرب في فيتنام حيث كانت أمريكا قد خاضت حرباً عالمية لأربع سنوات 1941 – 1945 وثراؤها كان يزداد عاماً بعد آخر، إنما الانحدار كان بالأساس بسبب انهيار النظام الرأسمالي فيها إذ لم يعد العمال يخلقون نقوداً كافية تفي بالحاجة، أي أن الرأسماليين كانوا قد هجروا تجارتهم وهي تحويل قوى العمل إلى بضاعة تستجر النقود. هذا ما أعلنه أكثر من اقتصادي فطين في واشنطن نفسها، وهو أمر طبيعي جداً فالمركز الرأسمالي لا يستطيع الاستمرار في إنتاج البضائع بدون أن يكون له محيطات تمتص فائض الإنتاج في المركز.

نتيجة تحرر الدول المحيطية واستقلالها بحماية المشروع اللينيني فلم تعد مكباً لفائض الانتاج في المراكز الرأسمالية، حاقت الأزمة القاتلة بالنظام الرأسمالي في العالم ؛ فكان أن انعقد في باريس/ رامبوييه مؤتمر القمة الأول للرأسماليين الخمسة الكبار (G 5) – الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، اليابان – ولما لم يجد قادة الرأسمالية العالمية الخمسة أي علاج لإعادة الحياة للنظام الرأسمالي وشق عليهم الاستغناء عن القهر والاستغلال الذي مارسوه طيلة حياتهم، حاكوا مؤامرة جهنمية ضد الإنسانية والطبقة العاملة تخصيصاً سيذكرها التاريخ متفجعاً لقرون طويلة. قالوا للدول التي استقلت ولم تعد محيطية.. أنتم أغلقتم أسواقكم بوجه بضائعنا، حسناً ليكن ذلك لن ننتج البضائع بعد اليوم لكننا سنبقى الأغنى بما تفيض خزائننا بعملات صعبة - ظناً منهم أن ثراءهم المالي دون البضاعي سيمكنهم من الاستمرار في ممارسة القهر والاستغلال للشعوب، لكنهم أساءوا الظن.

المؤامرة الجهنمية الفجائعية تتمثل بفصل البضاعة عن النقد خلافاً للقانون العام للنقد ؛ فالنقد مهما تلون أو تشكل فهو يمثل الذهب في السوق وهو البضاعة القياسية. الدول الخمسة بررت تخليها عن القانون الدولي العام للنقد بكفالة جماعية تضمن ثبات أسعار صرف نقودها وطلبت من صندوق النقد الدولي أن يسمح لكل دولة أن تحدد قيمة عملتها بنفسها دون اعتبار ملحوظ لأسواق الصرف. القدرات المالية الكبيرة التي توفرت لهذه الدول في العام 1975 مكنتها من السيطرة على أسواق الصرف في العالم من خلال المضاربة بما في ذلك أسعار صرف عملاتها. أن تكون هناك عصابة تتحكم بمكانزمات البورصة بارتفاع أو هبوط أسعار بعض العملات ذلك لا يعني بحال من الأحوال أن يعكس أي أثر على قدرات الإنتاج للدولة المعنية. وهنا يتمظهر الفصل بين النقود والبضاعة الأمر الذي قرره الخمسة الكبار في رامبوييه 1975.

قانون النقد الدولي العام لم تفرضه جهة معينة أو تحد من نفاذه هذه الجهة أو تلك. فوحدة المجتمع قامت أصلاً على تبادل المنتجات وكان يتم هذا التبادل عيانياً بالمقايضة بدون نقود. لكن بعد اتساع الانتاج والتبادل كان على الإنسان أن يبتدع معايراً لقيمة السلعة موضوع التبادل فكانت النقود الذهبية المعاير المناسب. ركن الخمسة الأغنياء على ثرائهم النقدي، غير أن فصل نقودهم عن الذهب وعن عموم البضاعة لا يمنحهم أية قوى حقيقية بل العكس هو الصحيح ؛ فقيمة دولار العام 1970 المغطى بالذهب تساوي اليوم قيمة 20 دولارا ليست مغطاة إلا بإعلان شفوي من قمة رامبوييه لا يصرف – إلا عند الشيوعيين الصينيين الكارهين للإشتراكية.

الآن نخلص إلى أسباب الفوضى المستشرية في جميع دول العالم رغم إنكار دهاقنة البورجوازية الوضيعة لها وهي المستفيدة كليّاً من الفوضى التي تشكل السند الوحيد لسلطانها المعولم، وأسباب الفوضى التي لم يقترب منها الدكتور سمير أمين ولم يتعرف عليها.

السبب الوحيد لهذه الفوضى التي لم تعرف البشرية مثلها من قبل هي فصل النقود عن القيمة البضاعية في الذهب كما في غيره من البضائع.

وهو ما سنشرحه في المقال القادم