&هذا الطرح ليس لجلد الذات، ليس لانها لا تستحق الجلد ولكن لأنه لم يعد يجدى الضرب على جلد ميت، فأنا ابن وطن ثرى غنى عامر، ثرى بموارده وسكانه،غنى بحضارته، وعامر بثقافته، مكانه الطبيعى رأس القائمة فوق فى عنان السماء، لكن الواقع يقول أنه وطن مسبى ومسلوب، وطن سباه التخلف واستلبه الجهل،وطن أمسك برقبته عنصريون طغاه، قيدوه بسلاسل التمييز والطائفية والكراهية والفساد والعنف والقتل والدم، وهم يحاولون الان نسخ القائمة وتصديرها لهذه الامم علها تلحق بنا، تلحق بركب التخلف والجهل الذى ننعم به ونتمرغ فيه.

نعود الى رحلتنا، فقد منحت شهرا من الابتعاد القسرى،ولولا شوقى الجارف لرؤية حفيدتى ووالديها لما فكرت فى السفر،السفر الذى كنت اعشقه فى شبابى لكن التباين الشديد والمتسارع فى الاحوال بين وطنى والبلاد التى أزورها بات يسبب لى ألما نفسيا بعد العودة، وجع يستمر وقتا ليس بالقليل، بالاضافة الى أن التعامل مع السفارات الغربية يتطلب جهدا نفسيا ولوجستيا خارقا، فهم متعالون وخائفون ولايميزون، لذا يعتقدون بأن تعقيد الاجراءات هو وسيلة حماية وهم واهمون، وبقدر ما استمتعت بالتجوال والسياحة والعلاج فى ثلاث دول هم قلب أوربا، بقدر ما حزنت على أحوال بلادى، فلا شرطى فى الشارع، ولا سيارات مقلوبة ومحترقة على الطرق،ولا أعمدة انارة مائله ومضيئة فى منتصف النهار، ولا تلال أزبال مكومة على الطرق،وعلى ذكر الطرق فحدث بلا حرج عن النظافة والنظام والالتزام والتنسيق،وعلى الحدود بين هولندا وبلجيكا لم نر دبابات وأبراج مراقبة وجنود مدججين بالسلاح، رأينا عربة آيس كريم وأكلنا وعلى يسارنا بلجيكا وعن يميننا هولندا، ورأينا الجمال فى الشوارع، كل أنماط الجمال،وبالطبع رأينا الجمال الأنثوى الذى لاتملك عند النظر اليه الا أن تسبح لخالق الجمال،وهو جمال على سجيته لكنه مصان كجواهر داخل خزائن لايجرؤ أحد حتى على مجرد النظراليه نظرة رديئة،وهنا تحضرنى الصورة الكئيبة فى أوطاننا حيث تغلف النساء تغليفا كاملا ومع ذلك لا تسلمن من الجوارح المنتشرة فى الشوارع،وبالقياس النسبى على مستوى الجمال الانثوى الذى رأيته هناك ربما لو لم يكن هذا الغلاف موجودا لكان حافز أكثر على الفضيلة، ورأينا الكنائس دورها مقصور فقط على دقة جرس تذكر بانقضاء الساعات واقتراب الساعه الكبرى، وتذكرـ فقط تذكر بالقيم العليا ومكارم الاخلاق المطلقة، الحرية والانسانية والقبول والتسامح والخير والجمال والعمل والنزاهة،وهى دعامات تقدم ورقى هذه المجتمعات.

لكن للموضوعية وحتى نخفف قليلا من درجة القتامة فى أحوالنا نقول بلا مبالغة أو تحيز يأن المطار المصرى الذى غادرت منه كان أفضل وأنظف وأرقى من مطار الوصول فى قلب أوربا،والموضوعية تقتضى القول أيضا بأنه عندما زرنا شاطئ على بحر الشمال حيث تقترب درجة الرطوبة من 80%عرفت لماذا يعشقون شواطئنا،فقد كانت الطائرة الالمانية ذات ال 400 راكب القادمة الى أحد مصايفنا الشهيرة عندهم كنا الاسرة المصرية الوحيدة تقريبا بين الالمان والهولنديين والبلجيك والفرنسيين رغم بدء الدراسة رسميا فى كل أوربا،نقطة أخيرة وهى بحكم خلفيتى المهنية فعندما حط الطيار على ممر الهبوط كان هبوطا ثقيلا بكل المقاييس،وهنا نذكر بسمعة الطيار المصرى فى العالم.

أما عن المنظومة الصحية التى شاءت الظروف ان نقترب منها فهى شيئ خارج المقارنة،وعندما أقول خارج فأنا أقصد أن مالديهم هو منظومة صحة أما مالدينا فهو منظومة مرض،والبون شاسع بين نظام يستهدف تحسين صحة شخص عنده ارادة الشفاء فهناك أمل فى الحياه يود العيش لأجله،وبين نظام يستهدف انسا ن بائس محبط مهموم ليس لديه ما يشجعه على الاستمرار فى الحياه،وبالتالى ليس لديه ارادة الشفاء،وربما يذكرنا القارئ بالوعد الذى قطعناه فى مستهل الطرح بعدم الاسترسال فى جلد الذات، لكن فى هذه النقطة بالذات أنا مضطرلأن مارأيته رأى العين جعل واقعنا محبطا أشد الاحباط، فمابين نظام تعليم طبى لا يصلح حتى لتأهيل حلاق صحة،وبين نظام صيدله أقرب لمنظومة البقالة والعطارة العشوائى، وبين نظام تمريض فاشل تخاف حتى من التطلع الى وجوه أصحابة المنفرة، وبين أجهزة عقيمة عبارة عن لوطات منتهية الصلاحيةأعيد طلائها فى الصين وصدرت الينا، ويدير كل هؤلاء منظومة ادارية فاسدة، مع نظام تأمين يضحك فيه الجميع على بعض، فالطبيب يكتب للمريض مايريده رخصة للتغيب المدفوع الأجر وقائمة من الادوية يستبدلها المريض بمستحضرات التجميل، ناهيك عما يسمى بالمستشفىات وهى مبانى أقرب الى أى شيئ عدا أن تكون مكان للاستشفاء والنقاهة .

القارئ الفاضل لعلك تلاحظ مدى انفعالى ولا أقول انبهارى، فالحزن على هذا الوطن منبعه عشقى له، فأنا موقن كل الايقان أننا نملك مالايملكه هؤلاء الذين سبقونا،لكننا مقيدون بسلاسل الماضى الماضى،الماضى الذى لايستطيع أحد الاقتراب لفحصه أو نقده أو تفسيره بقواميس العصر،ومن يغامر فمصيره محفوف بالمخاطر،أما هؤلاء فقد حطموا قيودهم حطموا التابوهات وحرروا العقول ودفعوا ثمنا باهظا دماء ملايين من البشر، بسبب حروب دينيه وخلصوا الى أن حرية العقيدة والمذهب هو الحل الاوحد للنهضة،دماء ملايين من البشر بسبب حروب سياسية وخلصوا الى أن الوحدة والتكامل هى الحل الناجع وأصبحت الحدود مجرد علامات سياحية للفرجة، وخاضوا صراعات اجتماعية وخلصوا الى أن المجتمعات يجب أن تتكافل كوحدة واحدة فلا غبن أو تهميش أو احتقار أو تمييز لطبقة أو جنس أو مهنة، وخاضوا صراعات اقتصادية وخلصوا الى أن الضريبة مقدسة وهى الوسيلة المثلى لتوزيع عادل للثروه على الجميع،وأن توازن المصالح بين العامل وصاحب العمل هو ضمانة لاستقرار بيئة العمل المنتج المربح للجميع،واليوم هم يحصدوا نتاج عرقهم وجهدهم وبحثهم ومثابرتهم والتزامهم أما نحن فنحصد نتاج التواكل والاتكال والغيبيات والكسل والفوضى والاهمال والتعصب والعنصرية نحصد دماء وقتل وعنف وبشر متألمين وأطفال بؤساء مشردين فى مخيمات فى طول هذه المنطقة الموبوءة وعرضها،هذا هو الوجع الذي يسببه البعاد نرى الصورة من خارج الاطار نراها من بعيد فنعرف كم هى مؤلمة وقاتمة وحزينة .