من بين النعم الكثيرة وافضلها التي منَ الله بها على الانسان هي نعمة العقل، التي فضلته وميزته عن سائر المخلوقات، وإن هذه النعمة هي من آثار التكريم الإلهي للانسان حيث فضله على كثير من خلقه، قال تعالى: " ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا".

وبهذا العقل، إستخلف الله (جلت قدرته) الانسان في الارض لعمارتها واستصلاحها، ولو لم يكن للانسان عقلا يدرك به اسباب وجوده لما كان لوجوده اي منفعة او فائدة. كما ان العبادات التي شرعها الله وفرضها على الناس في كل الأديان التي انزلها، كان من اول شروطها ان يكون الانسان عاقلا وبالغا، وكذلك المعاملات في الحياة، والعقود بين الناس بمختلف اصنافها، لا تكون قانونية وملزمة الا اذا كان جميع اطرافها عقلاء.

العقل، اكبر هبة من الله للانسان الذي من واجبه ان يكون مؤتمنا على هذه الهبة العظيمة، بأن يحافظ عليها وان لا يسلمها لأحد. ونعني بالتسليم، هو ان يلغي الفرد عقله ويترك الآخرين يفكرون نيابة عنه. العقل، هو مصدر الحكمة التي تميز بها الحكماء عبر التاريخ، واستخدام العقل بالطرق الصحيحة ولإهداف انسانية نبيلة له دورا كبيرا في إسعاد الانسان على المستوى الشخصي والبشرية جمعاء. العقل، هو الوسيلة التي نميز بها بين الحق والباطل، والصح والخطأ، وهو دليلنا الى الصواب الذي يربطنا بالحقيقة ويبعدنا عن الخرافة والأوهام.&

حتى نهاية السبعينات من القرن الماضي، كانت محاولة السيطرة على العقول في عالمنا العربي تقوم بها انظمة الحكم، وذلك بقمع الفئات المتعلمة والمثقفة التي كانت تطالب بالديمقراطية واحترام حقوق الانسان والمشاركة الشعبية في السلطة. وفي بعض الدول كان يمنع دخول وتداول الكتب السياسية والفكرية التي تتطرق الى مواضيع الديمقراطية وحرية التفكير، ويتعرض للعقاب كل مواطن يوجد في بيته هذه الاصناف من الكتب.

أما منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، ومع صعود التيار الديني في ارجاء العالم العربي، فقد إنضم رجال الدين الى الحكومات في محاولة السيطرة على العقول بعد ان انخرطوا في الشأن السياسي، وبدأوا يفتون في العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، رغم قلة علم اكثرهم بهذه المواضيع. ولكن للأسف الشديد، إنقاد الكثير من الناس اليهم وسلموا لهم عقولهم، يستشيرونهم ويأخذون بأرائهم في كل المواضيع بما في ذلك قضاياهم الشخصية كالزواج والعمل وغيرها من القضايا الاجتماعية. الغت اغلبية كبيرة من الناس (خصوصا الفئة الشابة) عقولها وسلمتها لهم ليفكروا نيابة عنهم بما في ذلك فئات متعلمة تعليما عاليا.

ومن المواضيع التي تحضرني في هذا الشأن قانون "الأحوال الشخصية – الشق الجعفري" في دولة البحرين، الذي حاولت الحكومة تطبيقه في عام 2005م لمعالجة القضايا الأسرية المتكدسة منذ سنوات طويلة في ادراج قضاة المحاكم الشرعية. رغم ان هذا القانون قد اجازته المرجعيات الدينية الشيعية في كل من النجف وقم، إلا ان بعض رجال الدين المتنفذين في البحرين قد عارضوه لغاية في انفسهم.

وبدعوة من رجال الدين هؤلاء، خرجت في شهر نوفمبر 2005م مظاهرة كبيرة شارك فيها عشرات الآلاف من المواطنين (رجال ونساء)، وصفت بأنها الأضخم في تاريخ البحرين بعد عهد الاصلاح، يرفضون تطبيق القانون الذي يهدف في الأساس الى حفظ حقوق المرأة والأطفال، ويحد من تعنت الرجال في قضايا الطلاق ومحاولة هروبهم من تحمل النفقات الشرعية. لا ابالغ اذا قلت ان حوالي 70% من الذين شاركوا في تلك المظاهرة لا يعرفون ما هو قانون "الأحوال الشخصية" وما الهدف منه. اما الـ 30% الباقون، فاغلبهم لم يقرؤون القانون لمعرفة ايجابياته وسلبياته، فقط خرجوا دعما لرجال الدين المعارضين للقانون الذي يحد من صلاحياتهم وتعسف بعضهم. لا زال القانون معلقا والكثير من النساء يعانون ويصرخون ولكن ما من مجيب.&

العقل هو سر عظمة الله في خلقه، والسير على هدى العقل المستنير يهيء لصاحبه مستقبلا كبيرا في مستوى التفكير والتدبر في شؤون الكون. ليس المطلوب من العقل ان يسَلم بلا اساس، بل ان يشك في كل شيء لأن الشك طريق العقل الى الصواب. على الانسان الذي انعم الله عليه بنعمة العقل عدم تقديس الغير مقدس سواء اكان شخصا ام شعارا ام فكرة، والاعتماد على النفس لا على الغير في البحث عن الحقيقة.&

يقول "الشيخ محمد الغزالي" رحمه الله: "انا لا اخشى على الانسان الذي يفكر وإن ضل، لأنه سيعود الى الحق. ولكني اخشى على الانسان الذي لا يفكر وإن اهتدى، لأنه سيكون كالقشة في مهب الريح".&

&