&
&
رحل عنا للتو السياسي الكردي العراقي المحنك والمناضل المتمرس ورئيس الجمهورية السابق جلال طالباني، مام جلال، الذي كان محبوب العراقيين وموضع احترام الدول الأخرى.
يرحل بعد معاناة مرضية طويلة وأليمة والعراق بأمس الحاجة لأمثاله رغم انهم قلة نادرة، يرحل والعراق على فوهة بركان حيث قرقعة السلاح وطبول الحرب والدعايات العنصرية الهيستيرية ضد شعب إقليم كردستان لمجرد انه مارس حقا في التعبير عن ارادته، مجرد تعبير سلمي، وسواء كان الاستفتاء في وقته أم لا.
وقد كان من الواجب ان يكود رد الفعل استجابة لدعوات الحوار الودي والصبور ومفاوضات مرنة وبلا شروط. وبلا استعداء وطلب تدخل نظامي الجوار الذين لا يعترفان بأبسط حقوق أكرادهم، وحيث هناك أكثر من ثلثي عدد أفراد الأمة الطردية البالغ عددهم حوالي 30 مليون نسمة لهم كل الحق في دولة قومية واحدة كما اعترفت بذلك معاهدة سيفر الدولية لعام 1920.
ان الاعتراف بحق أكراد العراق في تقرير المصير وحتى الى حد الدولة المستقلة هو حق مبدئي ودولي اعترف به ميثاق الأمم المتحدة.& وتبلغ حملة الدعايات الهائجة في بغداد الى حد اقحام إسرائيل في الوسط لمجرد اعلان تأييد الاستفتاء. رغم أن لإسرائيل حساباتها الخاصة لتفسير قيامها. ونعرف مثلا الاستخدام الروسي والبريطاني والتركي وشاه إيران للقضية الكردية وسبق لطالباني ان تطرق الى كل هذا في كتاب هام له صدر في السبعينات. ولكن العنصريين في المنطقة يستغلون ذلك لإنكار وجود قضية كردية واعتبارها مجرد مؤامرة خارجية.
وقد سبق ومنذ عشرات السنين ان اعترفت بحق تقرير المصير لأكراد العراق أحزاب ديمقراطية عراقية كحزب الاتحاد الوطني لعبد الفتاح إبراهيم والحزب الشيوعي وحزب الشعب والحركة الاشتراكية العربية لزعيمها النصراوي. وهذا لا يعني ان الانفصال محبذ في كل الظروف وانه الحل الأمثل على وجه الاطلاق، فلكل امر وقته وظروفه، ولو كان العراق ديمقراطيا علمانيا يعامل الجميع على قدم المساواة لكانت هناك حلول مثل الفيدرالية الموسعة والكونفدرالية أي تعايش ودي بين دولتين متأخيتين ومتعاونتين مثل تشيكيا وسلوفاكيا. ان الاستعمال العنفي وتأجيج الكراهية سبيل الى الهاوية وان محاصرة الشعب الكردي جريمة بحق الإنسانية. وها امامنا مثال العنف الاسباني الوحشي الذي يذكر بفرانكو ضد استفتاء شعب القطالوني، إذ ان هذه الإجراءات ستؤدي الى انه حتى غير الراغبين في الانفصال سيؤيدونه ويؤدي الى هوة شاسعة من الكراهية والاحقاد. ويجب عدم نسيان ان سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة واستفزازاتها ضد إقليم كردستان كان عاملا هاما في التفكير بالاستفتاء.
وقد سبق انتقدنا ومرارا الجبهة الكردستانية لأنها منذ سقوط صدام وضعت كل "بيضها" في سلة الأحزاب الطائفية المهيمنة بدلا من تعزيز التحالف مع القوى الديمقراطية العراقية. فإذا بالجزاء هو العقوق والمحاربة.
كان طالباني رجل الحصافة وبعد النظر والمرونة السياسية وصمام الأمان ورجل الوفاق والتفاهم والتسامح. وأذكر أننا، وفي فترة من تاريخ العراق السياسي، تباعدنا مختلفين وبجفاء وكان آخر لقاء لنا في مدينة براغ عام 1964 في الفندق. وحين التقينا عشية الحرب على صدام استقبلني بالأحضان ونسي كل ما كان. وكان فوق ذلك ذا خلق عال ومرحا ويردد النكات عن شخصه وعن الأكراد وهو يبتسم.
ان احداث اليوم الصاخبة في العراق تثير القلق الشديد وعلى حكام العراق الكف عن الوعيد والتهديد وعن جلب الوصايا الخارجية. إذا كان الاستفتاء في المناطق المتنازع عليها كان يجب تأجيله وحسب البند 140 من الدستور، فإنما ما جرى هو على اية حال كان عملا سلميا لا يستدعي كل هذا الصخب والتهديدات العسكرية مع نظام الفقيه ومع اردوغان الذين هما فعلا يعملان على تقسم العراق.
ان روح وانفاس طالباني، مام جلال، يجب ان ترفرف على جبال كردستان وعلى كل العراق ولتكن لنا من سيرته الحافلة دروسا في الحوار والوفاق والمحبة. إنه كان حبيب الأكراد وحبيب العرب وحبيب الأقليات وستظل ذكراه العاطرة في ذاكرة الجميع ووجدانهم ومجدا لذكراه.
&